بعد الفشل الذريع الذي مني به جدعون ساعر ومن والاه وأيده، أمام منافسه القوي الذي ظنه ضعيفًا مهزوزًا، يائسًا محبطًا، وحيدًا معزولًا، رئيس حزبه ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، بدأت انعكاسات معركة الانتخابات الداخلية في حزب الليكود عنيفةً قوية، وقاسيةً موجعةً، ووقحةً سافرة، إذ بدأت حرب تصفية الحسابات ومعاقبة الآبقين وتأنيب المتشككين، والانتقام من الخصوم وطرد المنافسين، وإقصاء المعارضين وتهميش المتآمرين.
لا يبدو أن الفائزين في هذه المعركة سيتحلون بصفات المنتصرين ومناقبيتهم العالية، وسيصفحون عمن نابذهم العداء وبادرهم بالخصومة، بل لن يقبلوا مبادئ الديمقراطية وأسس المنافسة الشريفة، ولن يعدوا ما حدث معركةً انتخابيةً فقط، واستحقاقًا ديمقراطيًّا لا غير، إذ إنها في حساباتهم الداخلية حربٌ ضروسٌ ومعركةٌ حامية الوطيس، كادت تقتل كبيرهم، وتقضي على زعيمهم، وتسلمه لقمةً سائغةً للقضاء وجسدًا ميتًا للسجن والفناء، لكن أملهم قد خاب وسهمهم قد طاش، وعاد نتنياهو قويًّا كما كان، ومرشحًا أول كما يتمنى، وخصمًا عنيدًا كما يريد.
استغل جدعون ساعر ظروف نتنياهو الخاصة ودعا إلى انتخاباتٍ داخلية مبكرة في حزبه، وقد ظن أنه سينتصر عليه وسيغلبه، وسيطرده ويبعده، ولكنه نسي أن المتكالبين على هذا المنصب كثرٌ، والطامحين إليه والحالمين بالوصول إليه أقوى منه وأجدر، وقد أدركوا أن موازين القوة ما زالت مع نتنياهو، وأنه لما بقي في منصبه رئيسًا للحكومة حتى شهر مارس القادم، فإنه لا يزال قويًّا وقادرًا على الرفع والسخط، لكن ساعر الغِر العجول، الأهوج الأحمق، الضحل الجاهل، الذي حصل على أقل من 30% من الأصوات، ظن أن خصوم نتنياهو سيلتفون حوله وسيصوتون له، وأن الغاضبين منه والكارهين له سينفضون من حوله، وسيمتنعون عن التصويت له، لكن صناديق الانتخابات عرته وفضحته، وتركته ضعيفًا وحيدًا مكشوفًا أمام نتنياهو، يلتمس صفحه ويرجو عفوه.
أما اليمين الإسرائيلي المتطرف والأحزاب الدينية المتشددة، وزعماء الاستيطان العنصريين، وأعضاء ليكود من سكان مستوطنات "غلاف قطاع غزة"، وغلاتهم في غيرها من المستوطنات، الذين صوتوا لنتنياهو وأيدوه في رئاسة حزب ليكود، بعد أن ظن بعضٌ أنهم يكرهونه ولا يريدونه، وسيحجبون أصواتهم عنه ويمنحونها لغيره، فقد أعلن نتنياهو عزمه على مكافأتهم، ونيته تقديرهم وكسب المزيد من رضاهم تمهيدًا للانتخابات القادمة، التي ستكون حاسمةً، تحدد مصيره وترسم خاتمته، فيكون ملك (إسرائيل) وطالوتها، أو سجينها وسبةً في جبينها، وصفحةً سوداء في تاريخها.
قد تشهد الساحة السياسية الإسرائيلية في الأيام القليلة القادمة موجة رحيلٍ من حزب ليكود إلى غيره، أو عمليات طردٍ وحرمانٍ لبعض أعضائه المتهمين بالتخاذل والتآمر، وقد لا يكون بعضهم مرشحًا على قوائم الحزب في الانتخابات القادمة، فكما يحاول نتنياهو وفريقه هندسة الأحزاب الدينية المتطرفة، لتتجاوز نسبة الحسم، وتحوز أصواتًا أعلى، وتسحب أصواتًا من حصة ليبرمان، فإنه سيعمل على هندسة حزبه وإعادة تنظيمه تنظيمًا أفضل، لئلا يفوز فيه من يناوئه أو ينافسه، أو يخشى عدم ولائه ويخاف انقلابه، فهؤلاء سيطردهم، وسيأتي بغيرهم من المؤيدين والمخلصين له.
وستشهد المرحلة القادمة حملةً استيطانية واسعة، يصادر خلالها نتنياهو المزيد من الأراضي الفلسطينية، لبناء مستوطناتٍ جديدةٍ فيها، وتوسيع القديم منها، وسيبدأ تنفيذ وعوده بضم مناطق فلسطينية بأكملها إلى الكيان الصهيوني، وإخضاعها لسيادة حكومته، وتطبيق قوانين كيانه عليها، بدءًا من الأغوار الأردنية، والجولان السورية، ومناطق واسعة من الأراضي الفلسطينية المصنفة "C" وفق اتفاقيات أوسلو، وكأنه بهذا يكرم حلفاءه اليمينيين ويكافئهم، ويشكرهم ويحفظ فضلهم ولا ينكر ولاءهم.
نوازع الانتقام عند نتنياهو وفريقه كبيرة، ودوافع الثأر في نفوسهم كثيرة، وما تخفي صدورهم وتوغر قلوب بعضهم على بعضٍ أكبر من أن يغفرها المنتصرون أو ينساها الخائفون، فلن يغفر نتنياهو وفريقه من استغل الظروف الخانقة وانتهز الأزمة الضاغطة، وأراد أن يوجه إليه ضربةً قاتلةً، ولو كان شريكه في الحزب وزميله في السياسة، فكيف يغفر وهو في طبعه حاقدٌ وفي أصله فاسدٌ، تحركه المصالح وتقوده المنافع، غدارٌ لا يصون عهدًا ولا يحفظ ودًّا، همه المنصب وغايته رئاسة الحكومة، يصفه زملاؤه بالكاذب ويُعرِّفُهُ شعبه بالانتهازي، فهل يكون انتصاره في رئاسة حزبه سمًّا زعافًا يقتله، وسرابًا ووهمًا يخدعه، أم سيكون فأله عليه حسنًا، وبشارة خيرٍ وفاتحة أملٍ له، تعيده إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية أربع سنواتٍ أخرى جديدة؟