"هاي مش بنتي".. مقيدة اليدين يمسكها مجندان إسرائيليان من كل جانب، يتمايل رأسها للأمام والخلف، يحاولان منعها من السقوط، بدت ملامحها شاحبة تغيرت تلك الزهرة حتى أصبحت ذابلة، لم يستطع والدها للوهلة الأولى التعرف عليها.
يحدث نفسه بتلك الكلمات المقهورة في لحظات صدم فيها من هيئتها وملامحها قبل أن تفرد ابنته الأسيرة ميس أبو غوش ابنة العشرين عاماً ابتسامة غطت وجنتيها وكانت كلمة السر بينها وبين أبيها الذي أُحضر لغرف التحقيق في سجن "المسكوبية" بالقدس بعد ثلاثة أسابيع من اعتقالها في التاسع والعشرين من أغسطس/ آب الماضي.
حينها، أراد والدها الصراخ في خضم هذا الصراع الداخلي: "ايش عاملين في بنتي؟!"، لكنه فضل الصمت حتى لا تنهار معنوياتها، واكتفى بمساندتها بقوله: "نفتخر بكِ".
في قلب سجن "الدامون" يئن قلبها المقيد بحكم إداري مرت منه أربعة أشهر، 30 يوما منها أمضتهم في تحقيق "المسكوبية"، تعرضت خلاله للتعذيب والشبح المتواصل. كل شيء في الحياة سُرق من الأسيرة "أبو غوش" من مخيم قلنديا بالقدس، ولم يبق سوى قضبان حديدية تسمع أنين قلبها، ودمعات عيونها في جوف الليل.
اقتحام مفاجئ
ويوم اعتقالها، كان يوشك أغسطس على طي صفحته، قبل أن يفزع صوت الطرق المزعج القادم من ناحية باب والد ميس، لكن الطرق استمر حتى خلعت وحدة "اليمام" التابعة لجيش الاحتلال الباب واقتحمت المنزل.
اتجه مسؤول الوحدة بنظره إلى زهرة البيت وعرفها: "هل أنت ميس؟ أجابته بـ"نعم"، ليعيد السؤال لها: "وين بتدرسي؟"، لكنها لم تخبره، فأمر جنود الاحتلال المقتحمين معه بتفتيش غرفتها والبحث عن حاسوبها وهاتفها المحمول بعدما رفضت إعطاءهم إياهما، حتى عثروا على الهاتف.
يقول والدها محمد أبو غوش لصحيفة "فلسطين": "طلبوا من ابنتي فتح الهاتف المغلق بكلمة المرور خاصتها، لكنها رفضت، فأخبروني بأمر أسرها، فرفضت ذلك وطلبت أن أحضرها في الغد للمركز، لكنهم رفضوا وقاموا بضربي وأبعدوني عنها".
لم تمر أكثر من أربعة أيام على اعتقال ميس، حتى جاءت قوات الاحتلال ذاتها لبيتها بمخيم قلنديا، يتفاخر ضابط دورية الاحتلال أمام أبو غوش باستهزاء: "شفت قديش ابنك سليمان (17 عاما) كان دمه حامي مشان أخته؟ بدي أعتقله احترازي"، رغم أن الاحتلال كان قد اعتقل سليمان أربعة أشهر إداريا في بداية العام.
عبر طرف سماعة الهاتف، يعلق أبو غوش على ذلك: "اعتقلوا سليمان كنوع من العقاب الجماعي لنا، وللضغط على ميس خلال التحقيق في مركز توقيف المسكوبية في القدس، وأجلسوهما معا خلال التحقيق للضغط عليها، وهذا أسلوب حقير يستخدمه الاحتلال".
أسبوع مر على اعتقال ميس، والدها يتلقى اتصالا هاتفيا، تعرف المتصلة عن نفسها والملقبة بـ"نورا" بأنها ضابطة التحقيق مع ابنته تريد مقابلته، على الفور ذهب وجلس معها، يقول: "بمجرد دخولي إلى مكتبها سألتني: "بنتك اللي عمرها 20 سنة ممرّش عليا بنت زيها، عندها كل هالغل والحقد علينا، عشان أخوها الشهيد حسين؟"، تسأل وتجيب نفسها: "طيب ما هو قتل وانقتل!".
طلبت المحققة من أبو غوش الحديث مع ابنته فرفض، لكنها خلال المقابلة التقطت له صورة خلسة من غير انتباه منه، حتى توهم ابنته بعدما تعرض الصورة عليها أن والدها أسير، وقد استمر لقاؤهما ساعتين ونصفا.
لم تمح الأيام تلك اللحظات من ذاكرة والدها: "حينما أحضروها لي، للوهلة الأولى لم أتعرف عليها وقلت بداخلي: هاي مش بنتي، فكل ما عانته نفسيا وجسديا من ضرب وتعذيب ظاهر عليها، كانت تعابير وجهها تدلل على قلة النوم وحجم الضغط النفسي والتعذيب الذي تعرضت له، كي تخرج بحالة ذابلة كهذه".
تعذيب وشبح
ثلاثة أسابيع فقط في السجن، تلك المدة التي نالت من جسد ميس، فبدت أمام والديها نحيلة، في لقاء استمر عدة ثوان، حيث كان هدفه إحضار والديها للضغط عليها في التحقيق، وقبل أن يخرج والدها من الغرفة التفت إلى ابنته مساندا إياها: "نفتخر بكِ، ونحن بخير"، أما والدتها فاكتفت بضمها بين ذراعيها. لم تشعر بوجع ابنتها من هذا الاحتضان إلا بعد شهرين من أول زيارة لهما إليها، حينما اعترفت لها بوجعها وألمها الشديد لحظة العناق بسبب التعذيب الذي تعرضت له.
"حتى الآن لم نزرها إلا مرتين منذ اعتقالها، ولم نعرف ما دار معها".. يضيف والدها: "ما كشفته مؤسسة الضمير بالإعلان مؤخرا عن تعرض ابنتي لتعذيب خلال التحقيق باستخدام وضعيات شبح "القرفصاء والموزة"، ما هو إلا جزء مما تعرضت له، لم تخبرنا به ولم يطلع أحد عليه حتى الآن".
وبأسلوب وضعية "القرفصاء"، يمنع الأسير من ملامسة رأسه للجدار، أو الارتكاز على ركبتيه على الأرض، بهدف إرهاق جسمه، وخاصة عضلات القدمين والذراعين والكتفين، والعمود الفقري.
أما شبح "الموزة"، أسلوب قليل الاستخدام وهو عبارة عن تقييد أيدي وأرجل المعتقل للخلف بكلبشات معدنية ثم إيصال كلا القيدين بواسطة كلبشة ثالثة بشكل مشدود إلى أن يصبح شكل الجسم مقوساً شبيها بالموزة، بأن يمدد ظهر الأسير على طاولة وتشبك يداه وقدماه ببعضهما من الأسفل، ما يشكل ضغطا كبيرا على عموده الفقري.
وفي 18 ديسمبر/ كانون الأول الجاري زارها والدها، يقول : "حاولت سؤال ابنتي عن موضوع التحقيق، لكنها لم ترد البوح بذلك وكأنه من الماضي، ربما حرصا على مشاعرنا، لكن ما تحدثت به لي، أنه بعد أربعة أيام من أسرها ضُربت وعُذبت وأنزلوها إلى تحقيق عسكري، إلا أنها لم تكمل كلامها بعدما ذكرت اسم التحقيق العسكري".
في لائحة الاتهام، وجه الاحتلال إليها تهمة بالمشاركة بأنشطة طلابية بجامعة بيرزيت مناهضة للتطبيع مع (إسرائيل)، والتواصل مع عدو، ويقصد بالعدو قناة "النور" الفضائية التي كانت ميس في يوم اعتقالها على وشك إعداد تقرير مرئي عن الشهيدة "هديل الهشلمون" لها.
وميس أبو غوش، طالبة في كلية الإعلام بجامعة بيرزيت، وهي شقيقة الشهيد حسين أبو غوش الذي ارتقى بعد تنفيذه عملية طعن في مستوطنة "بيت حورون"، كما يعتقل الاحتلال شقيقها الطفل سليمان (17 عاماً) إدارياً للمرة الثانية هذا العام.