في مفارقة من مفارقات الزمن الشعب الجزائري كله في لحظة تاريخية فارقة يبكي رحيل رجل من رجال الجزائر من جيل الثورة التي انضم إليها وعمره 16سنة وواصل مسيرة البناء والتعمير وحماية الثغور ومحاربة أعداء الجزائر والأمة العربية والإسلامية، وقدر الله له أن يكون مرافقا للشعب في حراكه وثورته السلمية ضد الفساد وضد العهدة الخامسة وضد العصابة رافقه وعمرة 80 سنة وهو نائب لوزير الدفاع وقائد للأركان، وأقسم بالله بأن يرافق الشعب في مطالبه وأن لا تراق أي قطرة دم وأنه سيحبط كل المؤامرات الداخلية والخارجية التي حيكت ضد الوطن، وقال قولته المشهورة: الوطن لا ثمن له وقال: “إلى يقترب من شبر من الوطن يدفع الثمن غالي”.
وكان له ما أراد فوفى بعهده وبر به وأعطى مثالا في الوطنية وقيم الأمانة والوفاء فرافق الحراك بكل صدق وأعطى الضمانات الكاملة للشعب وللعدالة فألقى القبض على العصابة وزج بها في السجن وتم محاكمتها وأعطى الضمانات لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة وفعلا كان ذلك وانتخب الشعب الجزائري بكل نزاهة وشفافية واختار رئيسا للجمهورية لأول مرة منتخبا بكل ديمقراطية.
وهاهو هذا الفارس المغوار يترجل ليلتحق برفاقه الشهداء الأوائل وينقل لهم سلام جيل الجزائريين الذين ترك لهم أمانة الجزائر وأمانة الشهداء وليبشرهم بأن روحهم ستظل ترفرف على أرض الجزائر وفوق سمائها.
“إن المفارقة التي مازال أصدقاؤنا وأشقاؤنا وزملاؤنا من الشعوب العربية والإسلامية هو كيف أن الجزائريين يثقون في العسكر وكيف أن العسكر والجنرالات خصوصا يمكن أن نثق فيهم ونستأمنهم على الوطن، ويقول لنا الكثير حين نلتقيهم لا تثقوا في الجنرالات فهم طغاة وفاسدون وهم سبب خراب الجزائر ويقولون لنا إن العسكر في كل البلاد العربية والإسلامية هم سبب الانحراف والفساد وأنهم حيث ما وجدوا غابت الديمقراطية ..” وهنا لابد من التوضيح لمسألة ثنائية العسكر والسياسة في الجزائر ولثنائية شعار “الجيش الشعب خاوة خاوة” ولهذا الالتحام بين الشعب وجيشه عبر كل تاريخ الجزائر وكيف أن هذا الشعب ليس له ثقة مطلقة بعد الله إلا في مؤسسة الجيش الشعبي الوطني سليل جيش التحرير، كيف أنه في كل الكوارث الطبيعية وفي كل الأزمات السياسية لا يجد الشعب إلا مؤسسة الجيش الشعبي الوطني إلى جنبه وفي مرافقته.
ربما هذا يعود إلى فشل الكثير من السياسيين وكثير من الأحزاب منذ الاستقلال في كل خططها وسياساتها.
ولكن التركيبة العجيبة الممزوجة بلحمة نادرة بين الجيش الوطني الشعبي وبين الشعب هي قناعة وعقيدة لم تأت من فراغ ولم تكن نتيجة قهر أو ظلم أو استبداد بل كانت حبا وتقديرا ووفاء متبادلا بين الجيش والشعب.
ثم إن تركيبة الجيش كله أنه من أبناء الشعب البسطاء وليس جيشا نخبويا من حيث التركيبة أو الامتداد، فالشباب الجزائري كان ومازال مصدرا من مصادر فخره هو أن يلتحق بمؤسسة الجيش الشعبي الوطني ويكون في صفوفه، ثم إن الجيش الشعبي الوطني هو واحد من الجيوش العربية القليلة التي حاربت الكيان الصهيوني وقوفا إلى جانب فلسطين وذلك في حرب الـ 1967 و1973، ثم أن الجيش الشعبي الوطني وهو سليل جيش التحرير كان سابقا في نشأته عن الكيانات السياسية فقد كان نواته الأولي الشبان الجزائريون الذين تربوا في أحضان الكشافة الإسلامية الجزائرية وتدربوا عسكريا فيها وشكلوا مجموعات مسلحة لمقاومة فرنسا الاستعمارية منذ الأربعينيات ثم نواة تشكيلته الأولى هي المنظمة الخاصة العسكرية “لوس” التي أنشأها حزب الشعب الجزائري سنة 1947 تحضيرا لإعلان الجهاد والثورة وهو ماكان في 1954. ولذلك فإن الجيش الشعبي الوطني سليل جيش التحرير هو الذي أنشأ الدولة الجزائرية الفتية على درب الأمير عبد القادر الجزائري الفارس العسكري المقاتل المجاهد الذي أعاد تأسيس الدولة الجزائرية خلال الاستعمار الفرنسي وشكل جيشا وقاوم فرنسا مدة 17 سنة، والأمير هو من الرموز الأساسية للدولة الجزائرية وهو رجل عسكري بالدرجة الأولى، ثم إن التركيبة النفسية الجزائرية هي تركيبة مقاومة مقاتلة محاربة وخاصة إذا تعلق الأمر بالعرض والأرض ولا ضير في ذلك، فهو سائر على درب الأوائل مثل القائد “سيفاكس” وعلى درب سيدى أبي مدين الغوث الرجل الصوفي العارف بالله الذي كان متجها للحج فعلم بالقائد صلاح الدين الأيوبي وجهاده لتحرير فلسطين فتخلف عن الحج وعرج على فلسطين ملتحقا بالجهاد مع صلاح الدين الأيوبي وأبلى البلاء الحسن وفقد ذراعه هناك ودفنها هناك وعاد إلى الجزائر وقد تحررت فلسطين من الصليبيين.
كان للجزائريين بطولات مع صلاح الدين الأيوبي وهو الذي كلفهم بحماية الجناح البحري لفلسطين وهو يعلم ما يعرف عن الجزائريين “بالجهاد البحري” ومناصرة الأندلسيين حين سقوط غرناطة.
إن الذهنية الجزائرية مسكونة بقيم الفروسية وبالثقة المقاومة على الدوام وهي تعود إلى أغوار التاريخ وإلى نزعتنا النوميدية التحررية التى ترجل فرسان روما عن خيولهم أمام فرسانها أيام الحرب البونيقية الثانية.
لقد اشتهرت بلادنا بالثورات وارتبط تاريخنا بالتمرد وعدم الخضوع وإنكار الظلم ومغالبة التسلط وفي أسوأ الحالة يلجأ للمقاومة السلبية عبر المقاطعة والبعد كما حدث مع العثمانيين.
لقد صمد الجزائري المقاتل حوالي ثلاثة قرون أمام الغزو الإسباني ورغم الانهزام أمام الغزو الفرنسي في 1830 بعد عامين من الحصار الذي ضرب على آيالة الجزائر ولكن الجزائريين قاتلوا وقاموا بكل الطرق والسبل إلى غاية تشكيل جيش التحرير الوطني والذي هو ابن الشعب وابن الأرياف وابن الفلاحين والعمال وابن القرى والمدن والصحاري، فيه من كافة أبناء الشعب وفئاته ومن كل الأعمار ومن الجنسين ومن كل المستويات وكان سند الجيش في كل المراحل هو الشعب الجزائري، فقد كان الجيش يأكل رغيف الشعب ويقتات من عرق الشعب ويتدثر بكفافه ويتسلح بعزيمته ويتوكأ على عزمه ويصبر بصبره وكان الجيش دوما هو صمام أمان لوحدة الثورة ووحدة القرار ووحدة المصير وكان العمود الفقري للدولة الوطنية الفتية.
إن الصورة التي تظل دائما أمامنا ماثلة عبر مدى الذاكرة التاريخية للشعب الجزائري هي صورة شعب قلما كف عن مقاومة المحتلين الغزاة مستحضرا على الدوام روح المقاومة ومنجبا لقادة عسكريين أفذاذا خاضوا معارك مشهودة بعضها إلى اليوم تدرس في كبريات الأكاديميات العسكرية الدولية وظل الجيش الجزائري إلى اليوم يضطلع بثلاثة التزامات: احترام موروثاته ومبادئه التاريخية وإنجاز مهامه في الدفاع وتطوير تنظيمه وإمكانياته، ولذلك فإن الجزائر اليوم عندما تبكي هذا المجاهد والقائد الفذ والرجل الشهم الوفي الأمين لا تبكي جنرالا من جنرالات الظلم والفجور والاستبداد بل تبكي ملحمة خالدة للجيش الجزائري جسدها هذا القائد قولا وفعلا.
إن التداخل العسكري في المدني يحتاج منا إلى قراءة في التاريخ فمنذ أن فتح عقبة بن نافع رضي الله عنه أفريقيا كلها سنة 46 هجري بأمر من معاوية رضي الله عنه وجعل من البربر أنصارا له ضد أعدائهم من الروم والبيزنطيين وحلفائهم وحقق الانتصار العسكري والذي حوله إلى انتصار مدني عاد بالخير على الوطن وليشعر أهل البلاد بحدوث تغيير فعلي في حياتهم فأقام مدينة تمثل التعمير والبناء الجديد وتوفر العيش الرغيد وتكون في منأى عن الإعداد فأسس مدينة القيروان سنة 50 هجري، ولم تكن القيروان خاصه بتونس وحدها بل كل المنطقة فلم يكن التقسيم الجغرافي كما هو اليوم ومثلت القيروان قاعدة عسكرية للمسلمين في وسط إفريقيا فكان ما قام به “عقبة بن نافع “تكريس لتداخل العسكري بالمدني في تلاحم عجيب وكانت مسيرته بعد ذلك تجسد هاته الرؤية ولم تكن تلك الرؤية تهدف لتحقيق أهداف سلطة تسعى للبقاء بل من منطق جعل السكان الأصليين يدافعون عن معتقدهم الجديد وهذا هو ما حصل في مسيرة الجيش الوطني الشعبي الذي كان دوما مرافقا للشعب.
وعلى الرغم من بعض الأخطاء التى وقعت في مسيرة هذه المؤسسة وهي مؤسسة الجيش الوطني الشعبي سواء في جوانب تنظيمية أو في التعسف في ممارسة السلطة أحيانا أو تجاوز للقانون تحت أي طائل ورغم تسلط البعض على المؤسسة في ظروف استثنائية عصيبة ولكن كل ذلك كان حالات شاذة وليست أصيلة في فكر المؤسسة بل تندرج ربما ضد مخططات تستهدف تحطيم مؤسسة الجيش الوطني الشعبي الجزائري أو فصلها عن الشعب للوصول إلى تحطيم الدولة الجزائرية ذات التوجه العروبي الإسلامي المناصرة لفلسطين.
فإذن فإن الشعب الجزائري اليوم وهو يبكي فراق قائد عسكري لايشبه الكثير من جنرالات العرب الا الجنرال السوداني سوار الذهب فإنما يبكي حرقته على رجولة وشجاعة وقيم وأمانة تمثل النخوة الجزائرية الأصيلة، ولذا حق للشعب الجزائري أن يفخر بجيشه وحق له أن يرتقي بوعيه إلى متطلبات التاريخ والرقي فالتحديات كبيرة لا تواجه الا بتراص الصفوف وترك اللامبالاة والعمل في انسجام وتنسيق وتلاحم بين كل مكونات الشعب الجزائري ولا دولة بلا جيش ولا جيش بلا دولة وجيش الجزائر جيش الجهاد والفداء ولا تخلو أرض من بقع جرداء ولكن الخير العميم يغطي كل خطأ أو تقصير والأرض الطيبة تنفي خبثها مهما طال الزمن، فرحم الله المجاهد القائد أحمد صالح قائدا بطلا ورجلا عاهد فوفى وأقام الحق وجنب الجزائر إراقة الدماء وتمزيق وحدتها. الله أكبر ولا غالب إلا الله.