مارست (إسرائيل) إرهابها المنظم بحق مدينة القدس، ورفعت من مستوى الجرائم والاعتداءات، لتفرض واقعًا جديدًا يمكن أن يكون مقدمة لدفع المقدسيين إلى مغادرة المدينة المقدسة قسرًا، فهذه الهجمة والاعتداءات المتكررة التي طالت المواطنين وأرضهم وممتلكاتهم ومصادر رزقهم ومقدساتهم ومقومات صمودهم لم تتوقف لحظة واحدة.
فسياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها (إسرائيل) وحملات التنكيل الممنهجة طالت البشر والشجر والحجر، فعشرات الاعتقالات اليومية تعيشها مدينة القدس، إضافة إلى المداهمات الليلية، التي لم ترحم الأطفال والنساء، فضلًا عن الإبعاد المستمر لكل النشطاء والمرابطين في الأقصى، وهدم المنشآت بحجة عدم وجود التراخيص، والاستيلاء على مساكن بعض المقدسيين، وقمع كل الفعاليات في القدس والمسجد الأقصى.
وفى كل مرة يضرب المقدسيون ويعتدى عليهم ويقمعون بلا هوادة، فالاحتلال لا يتورع عن استخدام الهراوات والقنابل الغازية السامة، والأعيرة المطاطية والقنابل الصوتية، ويتبجح بجرائمه وهو يطلق النار المباشرة لتصفية الفتية في مدينة القدس، وقتل المرابطات بدم بارد تحت حجج وذرائع أمنية واهية، لإرهاب المقدسيين، ونشر الخوف في قلوبهم.
فهذه الهمجية والسياسات الانتقامية للاحتلال طالت المدارس أيضًا وأعاقت وصول الطلبة وروعتهم ترويعًا ينافي المعاهدات والمواثيق الدولية كافة، التي ضمنت الحق في التعليم ووصول الأطفال بأمان إلى مؤسساتهم التعليمية، فالحواجز وتقييد حرية الحركة والتحكم بمداخل المسجد الأقصى تظهر للعيان أن الاحتلال ماضٍ في خطته العنصرية التوسعية الهادفة إلى فرض التقسيم الزماني والمكاني أمرًا واقعًا.
إنه يسوغ لنفسه بذريعة الإرهاب أن يغلق المؤسسات الثقافية والاجتماعية والتعليمية في القدس، وامتد الأمر إلى منع أي مؤسسات تتبع السلطة الفلسطينية في القدس؛ فهو بذلك لا يرى إلا سلطة الاحتلال، ولا يتصور وجود أي جهات أخرى تمارس أعمالها، فالاحتلال هو الاحتلال، متى نستيقظ ونعي أنه لا يفرق بيننا الفلسطينيين؟!، فالأمر يحتاج إلى وقفة ووحدة في موقفنا الوطني وتضافر الجهود للتصدي.
ليس هذا فحسب، فالمسلم والمسيحي تحت الاستهداف والبندقية موجهة إلى صدورهم لحظة بلحظة، يريدون تصفية الموقف، وقتل الفكرة، وهدم كل عوامل الصمود، وتفريغ المدينة من قاماتها الوطنية والسياسية؛ فمن إبعاد النواب المقدسيين إلى اعتقال الشيخ رائد صلاح، إلى ما حدث اليوم من منع رئيس التجمع الوطني المسيحي في الأراضي المقدسة، ديمتري دلياني، من دخول البلدة القديمة من القدس.
إن هذا الإجرام الصهيوني لم يأت من فراغ ولم يكن وليد اللحظة؛ فهو انعكاس لترهل المواقف الرسمية الفلسطينية المتمثلة في خطوات السلطة الفلسطينية، وتقاعسها عن القيام بدور مسؤول وفعال تجاه ما يحدث في القدس، صحيح أن هناك مواقف منددة وتحركات موضعية هنا وهناك، لكنها لا تفي بالغرض المطلوب وطنيًّا، مع بقاء اللقاءات والاتصالات مع الاحتلال وقمع الحراكات الشعبية ومنع المقاومة من قول كلمتها وتقييد نشاطها في الضفة الغربية، وهو الكفيل بتأديب الاحتلال وإعادته إلى صوابه بعد أن جن جنونه.
الأمر أيضًا لم يكن منفصلًا عن الموقف العربي والإسلامي، الذي في جله بقي في الإطار الشكلي، من مؤتمرات وورش وندوات ولقاءات وتصريحات، لم تنتقل إلى حيز التنفيذ؛ فخيارات العرب كفيلة أيضًا بوقف التدهور الحاصل ومنع (إسرائيل) من مواصلة جرائمها، مع التبجح الأمريكي وانحياز إدارة ترامب التي كانت خطواتها الأخيرة حافزًا للاحتلال: نقلها سفارتها إلى القدس، واعترافها بالقدس "عاصمة موحدة لـ(إسرائيل)".
وفى الساعات الأخيرة يخرج الرئيس الأمريكي ترامب ليعبر عن فخره واعتزازه بموقفه التاريخي حينما اعترف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل)، في كلمته أمام المؤتمر الوطني للمجلس الإسرائيلي الأميركي (أيباك)، عادًّا إياه من أفضل الخطوات التي اتخذها في عهده، رغم التحذيرات التي وصلت إليه من رؤساء وملوك، خشية ردات فعل تجتاح العالم العربي والإسلامي.
إن هذه الأحداث المتلاحقة في مدينة القدس وداخل المسجد الأقصى هي أحد أهم عوامل تسخين الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، وهي المحرك نحو إعادة توجيه بوصلة المواجهة، فالتفجير من هنا، من قلب المسجد الأقصى؛ فالوضع لا يطاق، والقدس هي مهوى قلوب الملايين ونور العيون ودونها تسفك الدماء وتبذل الأرواح؛ فلا ينخدع هذا العدو بهذا الهدوء، وعليه مراجعة حساباته جيدًا؛ فشرارة المواجهة بل إعصار وعنفوان الانتفاضة الشعبية والمسلحة سيجتاحان كل هذه المناطق؛ فقد لخص ملثم القسام ذلك في تغريدته التي حملت عبارات التهديد متوعدًا بتدفيع العدو الثمن، وهذه هي شرارة ترسم دخول الأوضاع في مرحلة جديدة من التصعيد لن يحتمل العدو كلفتها، وهو يستجدي الوسطاء لاستعادة الهدوء.