برد قارس وخيام تفترش قارعة الطريق فيها أسرى محررون يلتحفون أغطية لا توقف برودة الرياح.. مشهد أعاد المحررين إلى حياة الخيام داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأعاد الذاكرة للأسيرة المحررة بشرى الطويل إلى حياة الزنازين في أقسام الأسيرات، حيث ينهش البرد أجسادهن.
44 يوماً مضت على هذا الحال حين اعتصم نحو 40 أسيراً محرراً قطعت السلطة الفلسطينية رواتبهم للمطالبة بإعادة صرفها، على دوار "المنارة" وسط رام الله بالضفة الغربية المحتلة، أضربوا خلالها 21 يوماً عن الطعام، و4 أيام عن الماء، يبحثون عن حقوق لم يجدوها داخل الأسر ولا خارجه، حتى انتهى الإضراب في 1 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، لكن تفاصيله وأحداثه مستمرة في الذاكرة.
ومع بدء أول أيام الإضراب، تغير نظام حياة عائلة الأسير المحرر رامي البرغوثي، وأصبح الروتين اليومي لهذه العائلة قاسياً، هكذا تقول زوجته ريم البرغوثي في حديثها لصحيفة "فلسطين"، مضيفة "كنا نخرج من الصباح على المدرسة كوني معلمة، وأحيانا نضطر للاعتذار والغياب حتى نستطيع حضور اللقاءات والمؤتمرات التي ينظمها المحررون، وأحيانا نحضر الحقائب المدرسية وأتابع دروس أبنائي وأعلمهم في خيمة الاعتصام".
لكن لم يكن الأمر سهلاً، فقد كان على ريم التي تسكن في قرية "بيت ريما" الواقعة شمال غرب رام الله، أن تسير يوميا 40 دقيقة كي تصل مكان اعتصام زوجها، تصطحب بعض أطفالها الأربعة، وتترك ابنتها الأكبر نور (14 عاما) مع من تبقى منهم في البيت.
تتابع بتنهيدة ممزوجة بألم ذلك اليوم: "عشنا التشتت والتشرد، كنت أظل لوقت متأخر في خيمة الاعتصام أو أبيت فيها. صعب أن تكون بعيدا عن أطفالك بمسافة لا تقل عن 35 كيلومترا، لكن الظروف دفعتنا لذلك، فأمضيت معظم الأيام مع زوجي".
ليلة باردة
انتهى الإضراب، وانتهى معه ترحال عائلة انقسمت 44 يوماً، لكن ظلت تفاصيل تلك الليلة الباردة عالقة في ذاكرة ووجدان ريم، وكأنها تعيش المشهد من جديد: "حل المساء، الرياح تتسارع، الأمطار بدأت تسقط بغزارة، الناس انفضوا من الشوارع، كان صعبا على 30 فردا من أبناء وعائلات الأسرى الدخول إلى خيمتين لا تزيد مساحتيهما عن ثلاثة أمتار مربع. يومها تبللت الأغطية وتسربت المياه إلى داخل الخيام".
عاشت ريم وباقي العائلات ليلة صعبة حتى توقفت الغيوم عن سكب مياهها مع ساعات الصباح، فيما أصابت "القشعريرة" والإنفلونزا أجساد الأطفال الذين نقلوا على إثرها إلى المشفى في صبيحة اليوم التالي.
وقد كان صعباً على ريم أن ترى زوجها ينقل على كرسي متحرك بعد إضرابه عن الماء لأربعة أيام إلى المشفى بعد تعرضه لهبوط حاد بالسكر.
وتستذكر ما لفت انتباهها قبل أيام على انتهاء الاعتصام، حين وصلت الخيام قادمة من بيتها، حين رأت شخصا يَعِد آخر بفض الاعتصام، وهو يحمل مسدسا، الأمر الذي أشعل في قلبها الخوف على زوجها وباقي الأسرى من حدوث أي مكروه لهم، ونقلت لهم التهديد ليكونوا على حذر.
هوية مشتركة
بعد 20 عاماً من الأسر تجرع خلالها قسوة العيش معزولا عن العالم الخارجي، وأكلت من عمره ما أكلت حتى غزا الشعر الأبيض رأسه، لم يجد الأسير المحرر سفيان جمجوم سوى العمل خلف مقود سيارة كمندوب مبيعات؛ لمواجهة قسوة الحياة أيضاً خارج الأسر، فالسلطة الفلسطينية تستمر بقطع راتبه منذ عام 2007 حتى اليوم، لكن حتى هذه المهنة لم يستطع إكمالها بسبب عمره الذي وصل إلى التاسعة والأربعين، فتراجع دوره وقدم استقالته قبل بداية الاعتصام.
ومع أول أيام الاعتصام يطلب جمجوم من زوجته وأطفاله الأربعة (بنتان وولدان) أن يبقوا بعيدين عن هذه الأجواء، فردت عليه عبر لقاءات إعلامية وقالت جملة مشهورة: "حينما أضرب سفيان في سجون الاحتلال 63 يوما لم أستطع الوصول إليه، لكنه اليوم أضرب وأستطيع الوصول إليه؛ لذا سأبقى مساندة له".
"ذكرتنا أجواء الاعتصام بخيام الاحتلال في سجني عوفر والنقب، كنا نسعد بوجود متضامنين حولنا وأجواء التلاحم بين أبناء الشعب الفلسطيني، لكن عندما وصلنا إلى مرحلة الإضراب عن الماء كان الوضع خطيرا جدا، كانت كليتي قريبة من الإصابة بالفشل، وحالتي الصحية تدهورت" والكلام لجمجوم.
يضيف "غامرنا بصحتنا وحياتنا من أجل مستقبل أفضل لأولادنا. لا يرميك على المر إلا الأمر منه، لأننا كنا نموت في حياتنا ببطء".
خلال أيام الاعتصام، زوجة جمجوم وامرأتان يتولين مسؤولية إيصال رسالة مكتوبة من المحررين لمقر المقاطعة برام الله، وبعد مغادرتهن خيمة الاعتصام بدقائق، رن هاتف سفيان يخبره المتصل أن دورية تابعة لأجهزة أمن السلطة تعترض وتوقف زوجته والسيدتين، وعلى عجل ترك كل شيء ووصل لتلك النقطة.
جمجوم يحدث الضابط الفلسطيني: "أنا أخوكم فلسطيني مثلكم، لا يوجد داعٍ لقمع الناس". بذات النبرة المتعبة، يكمل حديثه عما دار بينه وبين الضابط: "لقد تأثر الضابط بحديثي معه ورأيت دموعه تنهمر منه حينما انتصرت هويتنا المشتركة على كل الأوامر العسكرية".
ومع توالي أيام الاعتصام، ووصول قضية المحررين لأن تصبح رأيا عاما، خرج جمجوم من خيمة الاعتصام إلى دورة مياه بعيدة عن المكان، وأثناء عودته تفاجأ بمداهمة أجهزة أمن السلطة المكان، وهو الأمر الذي لا يزال متأثراً به: "أخرجت هاتفي وبدأت بتصوير المداهمة، فجاء عناصر أمن السلطة وقيدوني، لكنني قمت بشد (الكلبشات) على يديّ أكثر".
استغرب الشرطي وسأله: "لم فعلت ذلك؟"، فأجابه جمجوم في لحظة استياء: "اعتدت أن تكون كذلك في السجن"، مضيفا "حينها لم أكن أتوقع أن يقيدني فلسطيني بعدما أفنيت سنين عمري لأجل وطني".
حق مشروع
عبر طرف سماعة الهاتف الأخرى، ترحل الأسيرة المحررة "الطويل" بصوتها الذي بدا عليه التعب إلى أيام الإضراب: "ذكرني الاعتصام بزنازين الاحتلال في قسم الأسيرات الذي لا يوجد به خيام، فالبرد القارس قاسم مشترك أعادني إلى حياة الأسر، مشهد لم أتوقع حدوثه في حياتي خارج قضبان الاحتلال؛ لأننا كنا نتوقع تكريمنا وليس قطع رواتبنا".
"أتدري..؟، كان الأسرى يطلقون أسماء أقسامهم في سجون الاحتلال على خيام الاعتصام، وهم يلتحفون السماء وينصبون خيامهم على قارعة الطريق يرافقهم زوجاتهم وأطفالهم" تضيف.
"الطويل" اعتقلت لدى الاحتلال عامين، وحسب القانون الفلسطيني يحق لأي فلسطينية تقضي هذه المدة راتباً كاملاً، لكنها لم تحصل عليه، تعلق على ذلك باستغراب: "عندما أفرج عني في آخر اعتقال لي عام 2017، تفاجأت بقطع راتبي (..) هذا حق مشروع وليس منة من أحد".
وإن كانت قضية المحررة "الطويل" مع قطع الراتب قد بدأت عام 2017، إلا أن الكثير من المحررين الذين خاضوا الاعتصام بدأت حكايتهم مع قطع راتبهم عام 2007.