لا جيوش عربية لتحارب فأنظمتها مشغولة في سباق التطبيع، ولا حصار كسر عن غزة، ولا سياسة قضم الأراضي وبناء المستعمرات قد توقفت، أي حتى طرح السلطة للتفاوض أصبح بلا معنى، والدولة التي حاربت السلطة الفلسطينية من أجل الحفاظ عليها أصبحت في مهب الريح، وليس في الأفق حل إلا عبر الوسيط الأمريكي، ونعرف مدى التزام أمريكا وانحيازها لصالح الاحتلال.
فبعد تأسيس (إسرائيل) في العام 1948، تحولت المقاطعة إلى موقف عربي سياسي ثابت، في إطار الجامعة العربية منذ العام 1951 بإنشاء جهاز رئيس لمقاطعة الاحتلال وتتبع له وحدات فرعية تنتشر في جميع الدول العربية، وقد أقر مجلس الجامعة العربية في العام 1954 القانون الموحد لمقاطعة الاحتلال والذي استهدف "عدم قيام أي شخص طبيعي أو اعتباري بتوقيع عقد بالذات أو بالوساطة مع هيئات وأشخاص يقيمون في (إسرائيل) أو منتمين إليها بجنسياتهم أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها أينما أقاموا، وحظر القيام بأي صفقات تجارية أو عمليات مالية، فضلاً عن جميع أنواع التعاملات الأخرى.. وأخضع القانون الموحد الشركات أو المنشآت الوطنية والأجنبية التي لها مصالح أو فروع أو توكيلات عامة لدى الاحتلال لحكم الأشخاص أو الهيئات المحظور التعامل معهم، وأشار القانون إلى عدم الدخول في علاقات معه، ومنع تصدير المنتجات العربية إلى البلدان التي يثبت أنها تعيد تصديرها إليه.
لا نقصد من هذا العرض، استكشاف تحولات العلاقات العربية مع الاحتلال، أو مقارنة أوضاع هذه العلاقة اليوم بما كانت عليه في الماضي، ولا تقييم حركة المقاطعة في مرحلة من المراحل، وإنما أقصد هنا كيفية تحريف مصطلح التطبيع لاستخدامه مدخلاً لتبرير أشكال من التطبيع مع الاحتلال، وهو ما استدعى تعريفات تحاول تحديد معناه ومجالاته كما في تعريف الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ (إسرائيل)، الذي قالت فيه إن التطبيع "هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصا للجمع (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) بين فلسطينيين (و/أو عرب) وإسرائيليين (أفرادا كانوا أم مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني. وأهم أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية.
لذلك أنشأ الاحتلال العديد من الاستراتيجيات من أجل القضاء على مفهوم الصراع العربي-الاسرائيلي في محاولة منه لنزع البعد العربي من هذا الصراع وإفراغه من مضمونه وتحويله إلى لقاء، بعيدا عن ممارسته العسكرية والتهويدية. إحدى هذه الاستراتيجيات كانت التطبيع، واستطاع من خلالها أن يوجد لنفسه مكانا بين الأنظمة العربية، ليتحول الأمر برمته وكأنه مشكلة يعيشها ويعاني منها الفلسطيني وعليه أن يتخلص منها، وفي المقلب الآخر، فإن صمت الشعوب لا يُفهم إلا أنه تخاذل ويوضح كيف أن الاحتلال قد استطاع فعلا أن يُفرغ الصراع معه من محتواه.
تلك المعطيات وغيرها بدأت تسهم في تعبيد الطريق أمام الاحتلال في تغييب وتغيير صورته الإجرامية والعنصرية أمام العالم، التي أسس لها، أولا من خلال تشويه الإنسان الفلسطيني وإظهاره بمظهر الإرهابي والمتخلف والرافض للتفاوض، عن طريق تغذية الخلافات والانقسامات الفلسطينية الداخلية، التي نشهد امتداداتها من فلسطين إلى خارجها.
إذًا، لا مزيد من المزايدات، فاللحظات الراهنة التي تمر بها القضية الفلسطينية هي الأخطر، وهي الآن تتعرض لأعنف التهديدات في تاريخها، فالسلام المطروح أو صفقة القرن التي أُبرِمَت مع أول اتفاق تطبيعي مع الاحتلال، واتخذت مسارها إلى العلن، والإفصاح عن بنود هذه الصفقة بدت واضحة في سباق الأنظمة العربية إلى التطبيع وإقامة العلاقات الرسمية مع الاحتلال، وبدأ هذا السلام يتكون بشكل غير مباشر عبر توقيع الاتفاقيات التجارية والتنسيقات الأمنية.
إن طَبَّعت الأنظمة فالشعوب لن تُطَبِّع، حتى لا تسقط هذه المقولة في فخ الشعارات الرنانة، لا بد من أن تتحرك تلك الشعوب وتُعَبِّر عن استيائها من أنظمتها التي تطبِّع مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ إن الجزء الأول من المقولة قد تحقق والتطبيع جارٍ على قدم وساق، فخلال الشهر الجاري فقط، أعلنت حكومة الاحتلال اعتزامها مد سكك حديدية مع عدة دول عربية، وليس آخرًا اقتراب الإعلان عن التطبيع مع السودان.
تبدو حاجتنا الآن أكثر من أي وقت مضى إلى مقاومة هذا التطبيع شعبيًا، وتحقيق مقولة "فالشعوب لن تُطَبِّع"، وعلى كل حال لا يمكن تناول موضوع التطبيع من كل جوانبه، ولكن يمكن القول بأن هناك عدة سبل من أجل محاربة ومقاومة التطبيع، فهناك على سبيل المثال نجاحات مهمة للمقاطعة وحركة BDS خصوصًا المقاطعة الأكاديمية خلال السنوات الماضية، وأخذت تلك المقاطعة تشكل نوعا من النضال غير المسلح بعد احتكار المنظمات له.
أما ما نستطيع فعله، يتمثل أولا في محاولة التخفيف من الانقسام الذي نعانيه سواء على الصعيد الشخصي أو على صعيد المنظمات، وثانيا القيام بخطوات ولو بسيطة من شأنها أن تحدث أثرا وتوضح للعالم بأن المشكلة هي الاحتلال بحد ذاته، ولا تعالج المسائل الأخرى قبل إعادة توضيح هذه النقطة وإعادة تموضعنا بالشكل الذي يناسب مستجدات هذه المرحلة، مع تكثيف استخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة في إيصال أصواتنا بشكل فردي أو جماعي، فالأجدر بنا عوضا عن محاربة بعضنا بعضا، أن نتفق على اختلافنا، وأن نتفق على أن تشتتنا وهجرتنا أساسهما المواربة والالتفاف حول المشكلة الأساسية، وأن لا نكون ضحية الخزان الذي يريدون وضعنا فيه، وأن ندق جدرانه ونفتعل الضجيج حتى يسمعنا كل من حولنا من أجل أن لا نموت ونصبح الضحية التي صمتت ولم تدق جدار الخزان مرة أخرى.