قائمة الموقع

منزل "أبو عمرة".. حجارة تبكي "التشرد الرابع"

2019-11-19T13:43:00+02:00

بحذر يمسك الشاب محمد أبو عمرة يد عروسته مروة؛ يسير بها  على حافة حفرة ردم  بعمق ستة أمتار على أنقاض منزله المدمر، مشهد أعاده إلى الوراء قليلا لما قبل شهر حينما زفت إليه عروسته في فرحة لم تدم، الأحبة الذين كانوا يلتفون حولهم يومها على وقع أهازيج الفرح.. اليوم يلتفون حولهم ولكن لمواساتهم في مصابهم والتخفيف عنهم بعد أن أصبحت العائلة المكونة من نحو 20 فردا مشردة بدون مأوى.

وصلنا الساعة الثانية ظهرًا؛ الشمس تتوسط قلب السماء، يبحث محمد وعروسته فوق الردم وبين حطام منزله الواقع شرق القرارة بمحافظة خان يونس على بعد 500 متر من السياج الاحتلالي الفاصل، عن شيء متبقٍ من شقة لم يهنأ العروسان فيها سوى 30 يومًا، إلى أن عثرا على بدلة حمراء محترقة، تذكره بمراسم زفافه ومعاناته في تجهيز شقته بأبهى صورة، أبت طائرات الاحتلال إلا أن تفسد تلك الفرحة وتلقي ثلاثة صواريخ حربية دمرت منزلهم.

الأوراق الخضراء الباقية على غصون بعض الأشجار الناجية من القصف جامدة بلا شعور .. حجارة المنزل المدمرة تبكي ذكريات العائلة .. أوراق وكتب مدرسية ممزقة، أثاث وملابس محترقة، الأضرار الكبيرة في المنزل المجاور التي شوهت لونه الأبيض وافترسته،  كلها شاهدة على هذه المأساة.

يسند محمد نفسه على مكعب اسمنتي فوق الردم، ممسكا "الفستان الأحمر" المحترق فكان الشيء الوحيد الذي استطاع إخراجه من بين الركام،  بجانبه تجلس عروسته، مطلقًا العنان لكلماته المحترقة كذلك بالغضب وهو يرفع الفستان بيديه للأعلى: "هدا اللي ضل من كل الدار".

يتجه بنظره نحو الأسفل، يتبعها بإشارة من إصبعه..  بدت ملامح الحزن تكسو وجهه، ولا يزال يجلس على حافة الحفرة التي سببها القصف: "هنا عفش البيت .. كله راح ".

لا زالت  الحسرة على واقع ما ألم به حاضرة: "وهذه تسريحة  وأثاث غرفة النوم تكسرت .. لم يبق شيء".

حتى تفاصيل الوجع هنا صعبة، يقلب كفيه، صوته اختفى بين ثنايا الوجع والقهر: "نجلس الآن فوق التراب، لا ذهب ولا مال، شقى  العمر احترق بلا عودة (...) محل صيانة الدراجة النارية، ودراجتي الخاصة، خرجنا بدون شيء".

في لحظات صمت، ينظر العروسان إلى أثاثهما وبيتهما المدمر الممتد بين الأراضي الزراعية بخان يونس، لا يصدقان ما يشاهدانه لولا الدمار الذي لحق بالمنزل، وكأنهما يعيشان حلمًا، لم تكتمل فرحتهما بل إنها انتهت قبل أن تبدأ، تأخذه الذاكرة إلى لحظات تجهيز شقته: "ادخرت المال بصعوبة لمدة عامين، كنت أقوم بتجهيزها، واشتريت كل شيء يلزم المنزل".

ينتزع ضحكة من بين أنياب الألم، لكن الابتسامة هنا أصعب من الحزن ذاته: " الحمد لله .. طلعنا ببدلة محروقة".

جولة فوق الركام

على الجهة الأخرى تتجول والدته أم صابر على أنقاض المنزل، تحاول البحث عن شيء هي الأخرى، تقلب الحجارة، تنظر تحت الردم، لكن دون جدوى، رفعت رأسها للأعلى وفردت ذراعيها، امتزجت كلماتها بالقهر رسمت ملامحها فصلا من فصول الحسرة؛  تقول: "يا عالم وين بدنا نروح؟ جاي برد علينا".

تأخذنا بجولة لمعاينة الأضرار، يقابلها قطع بلاستيكية زرقاء مكسرة من بقايا خزان مائي لا زالت غاضبة وهي تقول "كنا نخزن فيه الطَحِين".

سكنت للحظات ثم اغرورقت عيناها بالدموع، قبل أن تضيف: "احنا بنخزن من السنة للسنة، الحين بدنا ناكل رمل (..) بيتي هدم في خمس دقائق".

إلى الأمام في أعلى الردم، تجلس الطفلة بتول (10 أعوام) تسند رأسها بيدها التي تضعها على خدها تتأمل البيت، لا تصدق ما جرى، تنظر إلى كتبها المدرسية الممزقة المتطايرة على بقايا منزل، بنظرة حادة تجمعت الدموع على حوافها؛ ثم قالت: "لم أذهب اليوم للمدرسة، فليس لدي كتب ولا حقيبة ولا ملابس".

لا زالت تعيش الطفلة على وقع ما شاهدته، يتكرر مشهد تدمير البيت في ذاكرته وكذلك في حديثها: "كنت نائمة، فجأة سمعت أصوات تيقظي: "اطلعوا .. اطلعوا بدهم يقصفوا"، رأيت كل شيء بعيني".

"مهلة سبع دقائق"..

بقربها، يأخذنا والده، صاحب المنزل حمود أبو عمرة بحديثه إلى لحظات ما قبل القصف، يعود إلى مهلة السبع دقائق التي تشوهت معالم البيت بعدها، وسوته طائرات الاحتلال بالأرض وأصبح أثرا بعد عين.

الليل يلقي بستاره الأسود على القرارة الساعة الحادية عشرة وعشرين دقيقة، (13 نوفمبر/ تشرين ثاني 2019) يوشك أن يطوي نفسه، الاحتلال أبى إلا أن يرتكب جريمة جديدة قبل أن يرحل اليوم، أبو صابر يتلقى اتصالا هاتفيا، المتحدث بلغة عربية "مكسرة"، يقول: "المخابرات الإسرائيلية تحدثك .. نمهلك سبع دقائق لإخلاء المنزل وتبليغ الجيران".

يعترض أبو صابر الذي أيقظه الاتصال من النوم: "ليش بدك تضرب البيت"، يرد ضابط الاحتلال: "ما تسألش هدا السؤال".

دقائق صعبة عاشتها العائلة المكونة من نحو 20 فردًا، يسابق "أبو صابر" الوقت كان يخوض صراعا آخر مع السبع دقائق، لإنقاذ جميع الأرواح من بيته وأبناء الجيران، ينادي على البيت الملاصق له من الجهة الشمالية، ومن ثم على البيت الآخر الذي يبعد عنه عشرين مترا من الجهة الشرقية لإخلاء منازلهم، بعد أن أيقظ زوجته وأبناءه وزوجاتهم وأحفاده.

تفترش تلك اللحظات، حديثه، وهو يقف على بقايا منزله: "بعد أن ابتعدنا عن البيت، قال ضابط الاحتلال: لا تعود إلى البيت .. بعد عشر دقائق سنقصف البيت، ثم قال مستهزئا: "الطائرة ذهبت لجلب حمل ثقيل لمنزلك".

يفرد أبو صابر كفيه، صوته اختفى بين ثنايا الوجع والقهر: "حينها التزمت الصمت، فليس في اليد حيلة، الآن نجلس فوق تراب بيتنا المدمر، لكنني سأعيد بناءه مرة أخرى".

كانت تلك اللحظات التي لن ينساها أبناء العائلة حاضرة في حديث ابنه محمد كذلك، الذي حضر حديثنا هنا: "جاء أبي وطرق باب الشقة، صدمت زوجتي واستيقظت مفزوعة لا تصدق ما يجري: "شكله أبوك بمزح .. عنا هدوء بالمنطقة"، فرأينا البيت فارغا، حتى خرجنا بسرعة".

"ابتعدنا لمسافة 150 مترًا، وأطلقت طائرة حربية بدون طيار صاروخا، ثم جاءت طائرات حربية وألقت صاروخين دمرا المنزل بالكامل، وحلمي معه"، يتابع حديثه.

تحد وتشبث بالأرض

والده أبو صابر رجل خمسيني، لكنك حين تراه تعطيه سنا أكبر من عمره بعشر سنوات أخريات، يغزو الشعر الأبيض رأسه ولحيته، تجاعيد وجهه وملامحه الداكنة، تروي حكاية رجل عانى من قصف بيته عدة مرات، أكلت أشعة الشمس من لون بشرة الرجل المتشبث بتربية الأغنام والطيور وفي الزراعة  حتى أصبحت داكنة من لهيب الشمس الحارقة بالمناطق المحاذية للسياج الفاصل.

بجانب مدخل البيت، ذهب أبو صابر الذي يرتدي عباءة بنية وجلس واضعا أمامه براد "الشاي"، أصر على أن نحتسيه، في تحد وصبر لم نجد له وصفًا، يتأمل ببيته المدمر، لا زال لا يصدق ما يعيشه: "لا أعرف ماذا سأفعل مع قدوم فصل الشتاء، لا أملك مأوى ولا مشربا، البيت مكون من أربع شقق جميعها تدمرت".

أثناء حديثه حضرنا جيران جاؤوا يمدون العائلة بملابس وبعض الاحتياجات، في مشهد تكافل يعيشه أبناء الشعب الفلسطيني في كل عدوان يشنه الاحتلال على قطاع غزة.

تأخذه الذاكرة لمرات القصف السابقة، بعد أن  تعرض منزله لتدمير جزئي بليغ أعوام ( 2009، 2012، 2014)، " في المرة الأخيرة شردنا إلى مراكز الإيواء في المدارس".

ولا زال يتحدى قائلاً: " منذ سنوات أعمره بعد كل عدوان".

يشير إلى أقفاص الحيوانات والطيور التي قتلتها صواريخ الاحتلال، احتسى جرعة من صمت، قبل أن تكمل زوجته نيابة عنه: "حتى الحيوانات لم ترحم، قتل حمارنا، والأغنام والخراف الستة التي كنا نربيها ونحلب منها، قتلها كذلك نحو 60 حمامة لم تسلم من العدوان الغاشم الذي تعرضنا له".

حرقت صواريخ الاحتلال فرحة العروسين، وافترست المنزل للمرة الرابعة، ولا زال  أبو صابر يتحدى قسوة الظروف والاحتلال.

 

اخبار ذات صلة