حين قطعت الحكومة البريطانية قبل 102 سنة عهدًا على نفسها بإقامة ما سمته "وطنًّا قوميًّا لليهود" على أرض فلسطين، ظنت أن الأمر سيتحقق بسهولة، لكن ما خفي كان أعظم، وتجلى ذلك في مراحل النضال الفلسطيني على مر العقود الماضية.
كانت الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطانية عام 1917م آرثر بلفور، إلى اللورد روتشيلد أحد زعماء الحركة "الصهيونية" في تلك المدة، وعرفت فيما بعد باسم وعد "بلفور"؛ أول خطوة يتخذها الغرب لإقامة كيان للصهاينة على تراب فلسطين.
وأبلغ بلفور روتشيلد بالنيابة عن الحكومة البريطانية أنها تنظر بـ"عين العطف" لتأسيس ما أسماه "وطنًا قوميًّا لليهود" في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية.
وفي دراسة أعدها الباحث أ. د. علي محافظة، لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، يقول: "إن فكرة تهجير اليهود من أوروبا إلى فلسطين في جذورها فكرة مسيحية أوروبية، الغاية منها التخلص من الأقليات اليهودية في المجتمعات الأوروبية، التي كانت تنافس الأوروبيين في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية، وتعيش في أحياء مستقلة خاصة بها تسمى "غيتو"، منعزلة لا تختلط ببقية فئات وطبقات المجتمعات الأوروبية".
ووفق دراسات سياسية، إن وعد "بلفور" شكل المحدد الأساسي للاحتلال البريطاني لفلسطين بعد ذلك، والبريطانيون أنشؤوا "كيانًا يهوديًّا" في فلسطين، لكنهم لم يلتزموا بتنفيذ الفكرة المزعومة لما سمي "الانتداب"، وهي مساعدة الشعب الفلسطيني، وتهيئته للاستقلال.
وواجه جلب اليهود من مناطق مختلفة بالعالم -خاصة أوروبا- زمن الاحتلال البريطاني، ومنحهم الأسلحة، ومعسكرات تدريب في فلسطين، مقاومة فلسطينية.
لكن العصابات الصهيونية ارتكبت مجازر بحق الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين.
وفي إحدى دراسات مركز الزيتونة، يرد أن مشاريع المقاومة شكلت التحدي الإستراتيجي الأبرز للوجود "الصهيوني" في فلسطين منذ ما قبل وعد "بلفور"، وصولًا إلى اللحظة الراهنة باستمرار الشعب الفلسطيني في مقاومته متوسلًا كل الأساليب الكفاحية ضدّ الاحتلال، متجاوزًا كل الأزمات والمؤامرات التي تواجهه وتُفرض عليه.
ومن المعروف أن العصابات "الصهيونية" التي تأسست على يد الانتداب البريطاني ارتكبت أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين في قرى ومدن مختلفة، إلى أن جاءت سنة النكبة 1948م، التي أعلن فيها إقامة دولة الاحتلال على أرض فلسطين، مقابل تهجير سكانها الأصليين.
وبحسب ما وثقته كتب التاريخ والإحصاءات والأرقام، إن العصابات الصهيونية وجرائمها بحق الفلسطينيين الأبرياء هجرت وطردت أكثر من 900 ألف فلسطيني خارج وطنهم ليتشتتوا في الدول العربية المجاورة وأرجاء العالم كافة، من أصل 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في فلسطين سنة 1948م، في 1,300 قرية ومدينة فلسطينية.
وبعدها أُعلنت (إسرائيل) على أنقاض فلسطين التاريخية، ولم تستطع الجيوش العربية هزيمة العصابات "الصهيونية" في ذلك الوقت.
في أعقاب ذلك بدا شكل النضال الفلسطيني أكثر توسعًا ودراية وخبرة وقوة كذلك، وانقضت مجموعات المقاومة المسلحة على جنود الاحتلال وقواته فأوقعت قتلى وجرحى، إلى أن أعلن تأسيس السلطة الفلسطينية ومجيئها إلى الأراضي الفلسطينية مجددًا في إثر اتفاق (أوسلو)؛ في أيلول (سبتمبر) عام 1993م.
"محطة تأسيسية"
ويقول رئيس مركز فلسطين للدراسات الإستراتيجية إياد الشوربجي: "إن وعد "بلفور" شكل محطة فارقة من محطات قضية فلسطين، بسلب هذه الأرض المقدسة وإعطائها العصابات الصهيونية، وكان ذلك بمنزلة محطة تأسيسية للمشروع الصهيوني بتمكين مستعمر ومحتل جديد من الأرض العربية الفلسطينية الإسلامية".
وينبّه الشوربجي في حديث مع صحيفة "فلسطين" إلى أنه بعد أن مكن وعد "بلفور" العصابات الصهيونية من إقامة (إسرائيل) على أرض فلسطين، أتى اتفاق (أوسلو) ليتنازل عن 78% من الوطن "هدية مجانية للاحتلال".
ويعد هذا الاتفاق مقدمة لمشروع التسوية "الفاشل"، كما يصفه، "وقد "أهدى" الغالبية العظمى من أرض فلسطين إلى الصهاينة، أما ما تبقى من أرض فلسطين فتتفاوض عليه منظمة التحرير"، مبينًا أن ما يسمى "حل الدولتين" تآكل مع استمرار مشاريع الاستيطان في القدس والضفة الغربية المحتلتين.
ونص اتفاق "أوسلو 2"، الذي وقع في واشنطن سنة 1995م، على تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق غير متجاورة: (أ)، و(ب)، و(ج).
وفتح اتفاق أوسلو، الذي يوصف رئيس السلطة محمود عباس بأنه مهندسه، الباب واسعًا أمام استشراء الاستيطان في المناطق المصنفة "ج" بالضفة الغربية التي تشكل 61% من إجمالي مساحة الضفة، واستباحة ما تبقى منها بالاقتحامات والاعتقالات.
ويواصل عباس سياسة التنسيق الأمني الذي يصفه بـ"المقدس" مع (إسرائيل).
ويبلغ عدد المستوطنات التي توصف بأنها "سكنية" في الضفة الغربية -وفيها شرقي القدس- 179 مستوطنة، وإذا أضيفت إليها المستوطنات التي توصف بأنها "سياحية" يصل العدد إلى 199 مستوطنة، في حين يقدر عدد المستوطنين بـ820 ألفًا؛ وفق إفادة وحدة المعلومات الجغرافية في معهد الدراسات التطبيقية "أريج".
ويبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استغل هذه المعطيات، مع تطبيع عربي رسمي مع (إسرائيل)، ليتخذ خطوات على الأرض ضمن ما تعرف بـ"صفقة القرن"، منها: الاعتراف بالقدس المحتلة "عاصمة" لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ووقف المساهمة الأمريكية في تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
لكن الفلسطينيين أطلقوا، ضمن وسائل نضالهم وكفاحهم المتعددة ضد الاحتلال، مسيرة العودة الكبرى وكسر الحصار السلمية بقطاع غزة، في 30 آذار (مارس) 2018م، لتأكيد تمسكهم بالعودة إلى ديارهم المحتلة، سواء طال الزمان أم قصر.