يفتح البحر ذراعيه للنور، بشوق يعانق خيوط الشمس التي تتوسط قلب السماء ملقية بجدائلها الصفراء عليه بهدوء.. بصمت تتخلل أشعتها سطح الماء وتنفذ فيه لتبث النور في أرجائه حتى تتلألأ من هذا الانعكاس، التاسع والعشرون من مايو/ أيار 2018م، عقارب الساعة تشير إلى الواحدة ظهرًا، الرحلة على وشك الانطلاق؛ الأمل بالوصول لـ"قبرص" يبحر كذلك في قلوب 17 فردًا على متن سفينة "الحرية الأولى"، بقيادة القبطان سهيل العامودي.
كان القائمون على سفينة "الحرية الأولى" يمنون النفس أن تعانق الحرية وتصل إلى ضفة الأمل عند ميناء "قبرص" لضرب هذا الحصار الذي يفرش أوتاده الثقيلة مجالات الحياة كل في غزة، بلا حواجز ولا جدران تمامًا كما تسقط أشعة الشمس على البحر بكل هدوء.
تنبش صحيفة "فلسطين" في ذاكرة الحاج العامودي، الذي يسكن بحي الشيخ رضوان بمدينة غزة، وتنفس الحرية الجمعة الماضية وكأن الثمانية عشر شهرًا التي أمضاها بين قضبان الاحتلال مرت بالأمس، محاولة التنقيب في تلك الذاكرة عن حكاية قتل فيها الأمل ولحظات صعبة عاشها بين أقبية التحقيق وغرف العزل الانفرادي.
اختيار صعب
هل تقبل قيادة السفينة إلى قبرص؟ ربما سيستوعب السؤال قبطان سفينة أو أي شخص من خارج غزة، لكن طرحه على إنسان يعيش بين أنياب الحصار منذ 13 عامًا يعرف أنه من المستحيل التحقق أو ضرب من الخيال غير أنها مغامرة محفوفة بالمخاطر.
يشع في عينيه بريق وصوت ممزوج بنشوة "المنتصر"؛ مجيبًا عن السؤال الذي عرض عليه قبل ثمانية عشر شهرًا وهو يستنشق اليوم الحرية بعد الإفراج عنه الجمعة الماضية: "لأنني جزء من هذا الشعب والمعاناة، شعرت أنه يجب علي تقديم شيء، فحتم واجبي الموافقة على قيادة السفينة في محاولة لإخراج الناس والمرضى من جحيم الحصار".
لم يكن السؤال والطلب عشوائيًّا أو من فراغ، فالعامودي أحد الصيادين القلائل ممن يحملون شهادات دولية بالملاحة حصل عليها من قبرص والدنمارك عام 2000، حينها جرى اختياره للسفر لدورة تدريبية حول قيادة السفن الصغيرة، والتعامل مع أجهزة الملاحة، كما أن لديه خبرة عمرها أربعون عامًا في الصيد كتب فيها حكاية عشق مع الأمواج الزرقاء، ولهذا جرى انتقاؤه من بين أربعة آلاف صياد.
بدأت الترتيبات بتجهيز قاربين يبلغ طول كل واحد فيهما 16 مترًا، لكن علم الاحتلال الإسرائيلي بطريقة أو بأخرى عن أمر الإبحار لقبرص، فقصف القاربين وتضررا، فقام القائمون على سفن كسر الحصار بإصلاحهما لكن الاحتلال عاد ودمرهما، فاشتروا قاربًا من صياد واستلمه القائمون على الرحلة يوم الإبحار.
رحلة ومغامرة
كيف كنت تعرف الطريق هل كانت هناك علامات؟.. في صالة استقبال الضيوف بمنزل العامودي بمدينة غزة، يوجه أحد الزائرين المهنئين بسلامة الإفراج السؤال السابق للقبطان، سؤال أعاده إلى ما قبل 18 شهرًا، لتلك اللحظة الصعبة، يرد عليه بصوت تصحبه تنهيدة ممزوجة بالحسرة: "نعرف تقسيمات الحدود البحرية وفق اتفاق أوسلو، كلما أبحرت غربًا والتي تأخذ شكلًا منحنيًا من الشمال والجنوب نحو نقطة مركزية في المنتصف على شكل مثلث لمسافة 20 ميلًا بحريًّا".
أبحرت سفينة "الحرية" بقيادة القبطان، و4 مساعدين و13 شابًّا بين مرضى وطلبة، كانت ترافقها عدة سفن صيد حتى مسافة 9 أميال، (كانت المسافة المسموح بالإبحار فيها)، عند هذه النقطة الفاصلة عادت القوارب المرافقة لغزة، ووصلت سفينة "الحرية" إبحارها لمسافة أبعد إلى أن تجاوزت حاجز 12 ميلًا بحريًا.
الحرية المقيدة
يسند العامودي ذراعه إلى كرسي بني، ما زالت تلك التفاصيل تسكن ذاكرته: "في هذه النقطة اقتربت منا أربعة زوارق حربية إسرائيلية واحدة منهم كبيرة، أرسلوا إلينا طائرة صغيرة محملة بكاميرا للتصوير والتعرف على هوية من في القارب".
لكن العامودي استمر بالإبحار غير آبه بتلك النداءات الإسرائيلية عبر مكبرات الصوت: "يا قبطان وقف"، فمهمته "قيادة السفينة لبر الأمان" حتى صدر النداء الصارم "أوقف" وهذه المرة لم يستطيع الإكمال، يرحل بصوته إلى تلك الساعة: "فجأة ظهر لنا أربعة زوارق إسرائيلية صغيرة نسميهم (عباسات) على كل واحد منهم عشرة جنود وكلاب بوليسية اقتحمت القارب وسيطرت على من فيه".
زنزانة وسجن
فتشت القوة المهاجمة جميع من على القارب، ونقلتهم إلى ميناء "أسدود" وأجرت تحقيقات مع الجميع قبل أن تفرج عنهم جميعا عدا قبطان السفينة، نقل إلى التحقيق في سجن "نفحة" في زنازين العزل الانفرادي، مشهد لم يكن في حسبان العامودي فقد كان تشبثه بالأمل كبيرًا بأن يصل إلى "قبرص" قبل أن يجد نفسه معزولا عن العالم منسيا في غرفة لا تتجاوز مساحتها متران مربعان.
من أين جئت بالقارب؟ ومن أعطاك إياه؟ وأسئلة أخرى، يحاول المحققون من خلالها أخذ اعترافات من العامودي لتوجيه حكم أعلى، مرت فترة 30 يومًا في "الزنزانة" صعبة على رجل طرق باب الثامنة والخمسين من عمره.
بعد تلك الفترة، تنفس بعضًا من الحرية في جوف السجن المظلم، بالانتقال إلى سجن "نفحة"، يجبره موقف طريف على فرد ضحكة تلقائية على خده، ينقب بذاكرته عن تفاصيل أول يوم له بالسجن قائلا: "استقبلني أسير يدعي محمد القواسمي، شعرت حينها –بعد الانتهاء من التحقيق ولقاء السجانين– بنوع من الراحة مما هون علي غربتي في السجن، مازحني يومها: احنا متابعينك يا ريس".
استمر الأسير القواسمي بالمزاح مع القبطان العامودي: "من أول ما طلعت بالمركب حضرتلك البرش (سرير الأسير) لأني عارف إنك راح تيجي هان".
مرَّ أسبوعان على اعتقاله في غرفة الأسرى، لكن تلك الراحة التي شعر بها مقارنة بالزنزانة رغم أن السجن بكل تفاصيله خصص لقهر الفلسطينيين لم تطُل، عندما اقتحمت قوة من الوحدات الخاصة السجن وعثرت على هاتف محمول بالغرفة التي فيها القبطان، فحكمت عليهم إدارة السجن بالمنع من الزيارات والشراء من الكنتينا لمدة شهرين والبقاء داخل الغرفة لأسبوع.
عاد القبطان إلى سفينته بعد 18 شهرًا من الفراق "القسري"، سيعود لممارسة مهنته المفضلة التي بدأها بعمر لم يتجاوز فيه حاجز الثمانية عشرة عامًا، حصل على رخصة القيادة العائلية للسفن بعد أربعة أعوام من بدء عمله، حينما سلمه أهله قيادة المركب ومعه سلموه مستقبل حياتهم، لما وجدوا فيه من حكمة وسرعة تعلم بشأن اتجاهات الرياح والإبحار والصيد والتعامل مع أجهزة الملاحة المختلفة.