قائمة الموقع

بالصور: ​الريِّس "العبسي" وحكاية موت رآه بعينه في عرض البحر

2019-10-31T07:59:48+02:00
الصياد حسام العبسي

بدأ كلّ شيء منتصف ليلة السبت الماضي، 26 أكتوبر/ تشرين أول الجاري، عندما كان قارب عائلة العبسي المخصص للصيد يمخر عباب البحر على بعد أميال من شاطئ غزة.

كان على متن القارب عدد من الصيادين بينهم حسام العبسي (38 عامًا) الذي يعمل صيادًا منذ سنوات طويلة كانت كفيلة أن تجعله رَيِسًا على المركب الذي يملكه والده ويعمل عليه أكثر من 10 صيادين آخرين.

بدأ العمل ليلاً وتمكن طاقم الصيادين من صيد كميات وفيرة من الأسماك ذات الأنواع المختلفة، لكن سببًا ما جعل الريس العبسي ينزل إلى المياه مضطرًا بعدما فقد العلامة (طفاف مضيء) التي كانت تدل على مكان مرساة قارب الصيد الذي يعمل في البحر منذ سنوات طويلة.

وكانت النتيجة فقدان العبسي في عرض البحر بالخطأ لساعات يروي تفاصيلها المرعبة الريس لصحيفة "فلسطين".

بداية رحلة الصيد

مع حلول مساء الجمعة الماضية، وحين كانت الشمس تسحب خيوطها الذهبية من سماء غزة، بدأ العبسي يتجهز وفريق العمل في ميناء غزة للإبحار، وكان قرار الريس التوجه إلى بحر شمال قطاع غزة؛ الذي يطلُ على الأبيض المتوسط بطول 40 كيلومترًا.

وبالفعل، لم يمر وقت طويل بعد صلاة المغرب في ذلك اليوم، حتى انطلق القارب وكل من عليه يأمل بصيد وفير.

سار القارب بضعة أميال إلى الشمال، وبعد 4 ساعات تقريبًا قرر العبسي العودة إلى الميناء مجددًا بعدما تمكن من صيد كمية لا بأس بها من الأسماك.

عندما وصل القارب إلى الميناء الساعة 11:00 مساء الجمعة، أخلى الصيادون ما لديهم من أسماك استعدادًا لرحلة صيد جديدة ولأميال أبعد هذه المرة.

كان القرار؛ الإبحار غربًا انطلاقًا من الميناء ومن ثم التوجه جنوبًا بضعة أميال أيضًا، حتى أصبح القارب ومن عليه على بعد 14ميلاً من الشاطئ، ومن تحتهم يزيد عمق المياه عن 100 متر، وبلغة الصيادين "80 جاما (متر وثمانين سم للجاما الواحدة تقريبًا)"، وفق ما كان ظاهرًا على أجهزة يستخدمونها أثناء الصيد.

"كان المكان الذي تواجدنا به جيدًا، فقد تمكنا من صيد كمية كبيرة من الأسماك المختلفة" قال العبسي الذي يعيل أسرة ولا يملك مصدر دخل آخر سوى الصيد.

كان طاقم الصيادين قد أنزل المرساة إلى الأعماق، وربطها أحد أفراده بطفاف مضيء يطلق عليه الصيادون مسمى "رعاش"، وهو دليل كافٍ لإخبار الصيادين بمكان المرساة الغارقة في الأعماق.

بحلول منتصف الليل حان موعد العودة إلى ميناء غزة مجددًا لكن تغير الأجواء فجأة حال دون ذلك، وأصبح القارب في مكان بعيد عن المرساة، حتى "الرعاش" لم يعد يراه أحد، بعدما غمرته المياه بضعة أمتار أيضًا.

"الوحش المداري"

في تلك الليلة حالكة الظلمة، مضت الساعات كأنها سنين طويلة على الريس العبسي وطاقم الصيادين، وما زالت الرياح المرافقة للعاصفة المطرية "الوحش المداري" كما سميت إقليميًا، التي كانت غزة على موعد معها، تزداد قوتها شيئًا فشيئا.

عندها كان يتوجب على ريس القارب استخدام جهاز لتحديد المواقع "GPS" القادر على تحديد مكان المرساة بدقة، ما يسمح للعبسي وفريقه بالخروج من البحر قبل أن تزداد الرياح قوة، والعودة إليها متى شاء، غير أن أحدًا لم يخطر بباله استخدام هذه الجهاز في تلك اللحظة.

وأمر الريس حسام شقيقه يحيى بالنزول إلى البحر لربط الرعاش بحبل مربوط بالقارب، لكنه لم يتمكن.

وهنا اضطر العبسي أن ينزل بنفسه لربط المرساة ولم يتمكن، وعاد مرة أخرى إلى قارب الصيد وجلب منه قالونًا بلاستيكيًا (وعاء) مغلق بإحكام حتى لا تتسرب المياه إلى داخله، وقرر أن يبقى عائمًا فوق المكان الذي غرقت فيه المرساة وغمرت مياهه الطفاف "الرعاش"، وقد طلب من شقيقه يحيى أن يدير القارب حتى يصله ليصعد إليه حسام ومن ثم ينتشل الطفاف والمرساة.

لكن الرياح جاءت بما لا تشتيه السفن حقًا هذه المرة، لقد ازداد هبوب الرياح وزادت سرعتها، وتاه القارب الذي تولى دفته للتو يحيى نائبًا لشقيقه ولم يتمكن من العودة إليه.

كان الظلام حالكًا والبحر قد بدأ يفيض بأمواجه، وكان ذلك سببًا رئيسًا لعدم تمكن يحيى من على متن القارب المضيء من رؤية حسام بين الأمواج.

"كنت أرى القارب من بعيد ولم أترك كلمة إلا وناديت بعالي الصوت عليهم بها وهم يبحثون في مناطق قريبة مني لكن أحدًا منهم لم يراني ولم يسمعني".

ساعات مرعبة

استمرت عملية البحث قرابة 3 ساعات قبل أن يعود القارب إلى ميناء غزة تاركًا حسام في عتمة الليل، على بعد أميال، ومن تحته يزيد عمق المياه عن مئة متر.

ولك عزيزي القارئ، أن تتخيل هذا الموقف عندما كان العبسي لوحده في عرض البحر الساعة 2:30 ليلة السبت الماضي.

يصف الريس هذه الليلة، بأنها أسوأ الأوقات التي مر بها منذ ركوبه البحر قبل 22 عامًا مضت من عمره وهو يعمل صيادًا.

"لم أكن أرى شيئًا من حولي سوى عتمة الليل" يصف حسام بهذه الكلمات اللحظات الأولى لفقدانه، فلم يكن بوسعه رؤية شاطئ غزة وأضوائه، فيما السماء تتلبّد بالغيوم وهو ما زاد الليل حلكة، فيما الرياح تزداد قوة وسرعة.

تمرّ الساعات ثقيلة على حسام وهو عائم على وجه المياه، وما زال ينتظر بشغف قشة يتعلق بها حتى يخرج من المياه، لكن لا شيء من حوله سوى البحر، ومع ذلك بدأ الخوف يداهمه من كل جهة، فتارة تخيل أن أسماك القرش ستهاجمه على حين غرة، وبالفعل في المنطقة التي كان فيها تتواجد أسماك القرش وبكثرة، وتارة أخرى تخيل أن زوارق بحرية الاحتلال ستأتي وتطلق عليه النيران، فهو يعلم جيدًا بجرائمها بحق الصيادين ومنها إعدامهم واعتقالهم ومصادرة قواربهم.

لقد سيطرت على عقله الأفكار السلبية وهيمنت عليه بقوة، ولم يعد لديه أمل بالنجاة.

في الجانب آخر، يصل القارب بالصيادين إلى ميناء غزة، وينتشر خبر فقدان صياد على بعد أميال كالنار في الهشيم عبر الرسائل العاجلة التي تغزو هواتف الغزِّيين النقالة عبر تطبيق "WhatsApp".

يثير العاجل الصباحي اهتمام المواطنين في غزة، فهم على دراية كاملة بما يتعرض له الصيادون من مخاطر في البحر.

إلا أن الريس حسام في الجانب الغربي للوطن، كان يمخر عباب البحر بساعديه وساقيه سباحة لقرابة 2 كيلومتر بحلول الساعات الأولى من الفجر، حتى وصل إلى طفاف ضخم "يسميه الصيادون (بالون)"، تضعه بحرية الاحتلال لتحديد المساحات البحرية المسموح للصيادين الغزِّيين الإبحار والصيد فيها، عله يجد من ينتشله.

كما أن زورق بحرية الاحتلال كان على مقربة منه وتركه يواجه مصيره.

في المقابل يستمر البحث عن العبسي من صيادين آخرين علموا بأمر فقدانه، ومع طلوع صباح ذلك اليوم عثروا عليه على بعد 14 ميلاً، وصعد إلى قاربهم متنفسًا الصعداء.

"لقد كانت ليلة مرعبة، لم أستطع الوقوف على القارب عندما صعدت فوقه بعدما رأيت الموت بعيني لكن الله نجاني، فله الحمد والشكر" يضيف حسام الذي تبدو عليه آثار التعب.

وبحجم المخاطر التي تعرض لها العبسي، إلا أنه يدرك جيدًا أنها كانت تجربة جديدة ستضيف إليه مزيدًا من الخبرة في التعامل مع البحر، ويعرف حقًا أنه لو استخدم جهاز "GPS" لتفادي ليلة كاملة في البحر.

بالمناسبة؛ عندما وصل الريس بيته في مخيم الشاطئ، غربي مدينة غزة، تهللت أسارير عائلته التي تتوارث مهنة الصيد بمرور أجيالها، واحتضنه أبناؤه محمد (8 أعوام)، لُباب (4 أعوام) ومحمود (3 أعوام)، أما زوجته فلم يكن لديها علم بما جرى معه في البحر، فهنأته بالسلامة لكنها كانت غاضبة، وهذا لم يرضه فحاول مراضاتها بكل السبل. وبدا الجميع أخيرًا راضيًا بقضاء الله وقدره الذي شاء أن يعود العبسي سالمًا إلى أهله.

اخبار ذات صلة