تمر الجمعة تلو الأخرى على مسيرات العودة وكسر الحصار، منذ عام ونصف، ومعها يتشبث الفلسطينيون بحقوقهم أكثر.. وعلى مسافة قصيرة من السياج الفاصل شرق قطاع غزة، هناك ينبض كل شيء بالحياة والأمل رغم "رصاص الموت" الإسرائيلي الذي لم يسكت صوته.
ففي عيون المنتفضين بوجه الاحتلال، تبدو ملامح الصبر والتحدي جليّة، فهنا مجموعات شبابية ثائرة تجوب أرض مخيم العودة شرق غزة، ملوّحة بشارات النصر وأعلام فلسطين أمام مرأى جنود الاحتلال، وهناك فتيات عقدن العزم على غرس حب الوطن في قلوب الأطفال والثائرين الصغار.
بعضهم يعلق مفتاح العودة المصنوع من الخشب أو المعدن على صدره، ويواصلون المشاركة بالمسيرات على أمل العودة إلى الديار المحتلة منذ عام 1948، مع الآلاف الذين توافدوا عصراً إلى مخيمات العودة الخمسة شرقي قطاع غزة؛ استجابةً لدعوة الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة، للمشاركة في الجمعة الـ79 من المسيرات تحت اسم "لا للتطبيع".
ومع بدء فعاليات المسيرات، كانت صحيفة "فلسطين" ترصد قصصا حية من شرق غزة.
الحاج "نصار" يشتم رائحة "بيت دراس" قرب السياج
الساعة الخامسة عصراً؛ يتكئ على عكازه الأسود، وهو يرتدي عباءة رمادية ويعلق بردته على كتفه الأيسر، تغطي هامته "حطة" بيضاء يتوسطها عقال أسمر، وترسم تجاعيد وجهه حكاية عمرها 71 عاما، عاش خلالها قصة عائلة وبلدة وشعب مهجر قسرا يوم "النكبة".
فما زال الحنين يشد اللاجئ منسي نصار من قرية "بيت دراس" (84 عاما)، إلى أيام طفولته في قريته المُهجّرة، ورغم مرور كل تلك السنوات إلا أنه ما زال يتشبث بعادات الأجداد على أمل "عودة" قريبة يكحل بها عيونه بعد الفراق.
بخطوات متسارعة كان يقترب نصار أكثر من السياج الفاصل، يحاول الوصول إلى أقرب نقطة يستطيع من خلالها شم "رائحة البلاد"، فما زال الحنين يأخذه إلى "بيت دراس".
"بدي أتفرج على البلاد.. بنتظر الجمعة لحظة بلحظة".. يقول وهو يشير بيده نحو الأشجار والمحاصيل خلف السياج الفاصل، داخل أراضينا المحتلة.
تروي تجاعيد وجهه مسيرة طويلة من المعاناة واللجوء، مستذكرا يوم هجرته: "لا زلت أذكر يوم أن خرجت إلينا العصابات الصهيونية تقصفنا بمدافع الهاون (..) تشردنا وقلب موازين المعركة كان بتدخل الدول العربية التي كان تدخلها لصالح الاحتلال، رغم أن المقاومين كانوا يحققون انتصارات كبيرة، وشاهدت العديد من المعارك، وشاركت معهم في حمل السلاح".
يحتفظ بمفتاح منزله، وأوراق ملكيتها، ليورثها لأولاده وأحفاده، ويضيف: "كانت لنا أرض كبيرة، تبلغ مساحتها نحو 120 دونما، لا زلت أتذكر كروم العنب والتفاح"، يواصل حديثه بتنهيدة ممزوجة بالحنين: "بلادنا خير لا يمكننسيانها".
ورأى نصار "العصابات الصهيونية" وهي تقتل والده وهو يدافع عن قريته من النكبة، واستشهاد عمه، كما أنه ودع ابنيه شهيدين، الأول عماد خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والثاني أكرم الذي ارتقى خلال اغتيال الاحتلال قائد حركة حماس د. عبد العزيز الرنتيسي.
قيود وحرية قريبة.. "وفاء الأحرار" في الذاكرة
تقيد الخمسينية "أم رضوان" رجب يديها بسلاسل حديدية، وترفع شارة النصر بيديها تلوح بها للأعلى طوال مسيرها، ويلف رقبتها علم فلسطين، وبجوارها يسير أحفادها الصغار يحملون الأعلام ويرتدون بزات عسكرية، وملابس تراثية.
تتجول مع أحفادها بين جموع المتظاهرين متجهين نحو الصفوف الأمامية قرب السياج الفاصل، وهم يرددون شعارات تضامنية مع الأسرى في سجون الاحتلال، مسيرة صغيرة في قلب مسيرة أكبر.
بعدما التقطت صورة تذكارية لها مع أحفادها، قالت: "أقيد يدي، لأوصل رسالة في الذكرى الثامنة لصفقة وفاء الأحرار، أننا نتطلع إلى صفقة وفاء أحرار جديدة نحرر فيها الأسرى. ونقول للأسرى إن حريتكم قريبة طالما أن هناك مقاومة تخطف وتأسر جنود الاحتلال".
والحاجة رجب التي تحافظ على مشاركتها في المسيرات: "لا أتنازل عن أي جمعة من الجمع"، استشهد ابنها محمود خلال عدوان الاحتلال على القطاع عام 2014، ولديها ابن آخر جريح، تشير بيديها نحو أحفادها بنبرة الفخر: "أحاول تعزيز حب الانتماء للوطن في نفوسهم، وأعرفهم على قضايا الأسرى".
"قراءة الفاتحة" على عقد البيع
"من مسيرات العودة، لن نقبل بالتفريط أو التطبيع، لا السياسي ولا الديني ولا الرياضي، كل ذلك خيانة، كما قال الرئيس (التونسي المنتخب) قيس سعيد من تونس بإرادة شعبه بأن التطبيع خيانة".. بهذا بدأ الأكاديمي محمود أبو مالك حديثه لصحيفة "فلسطين" من على مقربة من منصة مهرجان مسيرات العودة بمخيم ملكة.
ويضيف: "نقول لكل العرب: طالما أن هناك شبرا محتلا من أرض فلسطين فكل الإجراءات التي تقومون بها مع دولة الاحتلال تطبيع باطل".
وأردف "التطبيع خيانة، وكان آخره وصول الوفد الرياضي السعودي إلى بلادنا المحتلة عبر معابر الاحتلال. نعم نريد أن يأتوا إلينا متضامنين لا مطبعين، من خلال إخواننا المصريين وليس تحت بنادق وبساطير الاحتلال، يكفيهم ذلا أنهم زاروا أقدس المقدسات بختم وتصريح إسرائيلي، فهذا خيانة ونسيان للمقدسات وقراءة الفاتحة على عقد بيع فلسطين".
ويشاركه في المجيء لمسيرات العودة رفيقه خالد حشيش، الذي أضاف "التطبيع يعني القبول للاحتلال أن يكون على أرضنا".
ومن وجهة نظر حشيش، فإن قدوم العرب إلى أرض فلسطين وهي محتلة، يعني أن الصغار سينسون وأن الاحتلال سيواصل سرقة الأرض، مضيفا: "التطبيع كالسرطان الخبيث الذي يمتد، ومن أرض العودة نرفض التطبيع مع الاحتلال ونقول لأشقائنا العرب أن يقفوا حاجزا منيعا ضد هذا الأخطبوط، وندعوهم للتمسك بفلسطين التي تعتبر قلب الأمة النابض".