يشهد المسجد الأقصى اليوم ثلاثة تغييراتٍ تُعد الأسوأ في الوضع القائم منذ السماح باقتحامات المستوطنين في شهر 6-2003؛ تبدأ هذه التغييرات أولًا بفرض الصلاة العلنية الجماعية للمتطرفين الصهاينة خلال اقتحامه وهو ما يعني الانتقال من فكرة "زيارة اليهود" للأقصى إلى تكريس "الأحقية الدينية" فيه، وتمر التغييرات ثانيًا بتفريغ دور حراس المسجد الأقصى المبارك بمنع شرطة الاحتلال لهم من الاقتراب من المجموعات المقتحمة، ما يعني استفراد المتطرفين الصهاينة به صلاةً وتدنيسًا أو حتى تخريبًا، وقد سبق لحراس الأقصى أن كشفوا مؤامراتٍ تخريبية عدة، ومحاولات إدخال متفجراتٍ ومواد حارقة إلى الأقصى على مدى العقود الماضية.
أما التغيير الثالث الذي يحاول الاحتلال فرضه فهو قلب نتائج هبة باب الرحمة، إذ تقتحم شرطة الاحتلال مصلى باب الرحمة بالأحذية وتفرّغه من أثاثه لتُكرّس عدم اعترافها به كمصلى، وتفرض في محيطه منطقة حظرٍ على المصلين خلال حضور المقتحمين الصهاينة، لتعيد إحياء مشروع التقسيم المكاني في هذه المنطقة، وهو المخطط الذي قوّضته هبة باب الرحمة حين انتهت إلى فتح المصلى وإعماره بالصلاة والعبادات.
هل المحتل مؤهّل لفرض هذه التغييرات؟
على عكس ما تحاول أعداد الشرطة تصويره، فالمحتل يُقبل على هذه الخطوة بيدٍ مرتجفة وقلبٍ أكثر ارتجافًا، فهو يعلم بالتجربة الميدانية أن حضور الجماهير سيفرض عليه تراجعًا حتميًا، وهو لذلك يتفادى كل ما يؤسس لحضورها، فتجربة هبة باب الرحمة لا تبعد عنا أكثر من ثمانية أشهر، وقبلها تجربة هبة باب الأسباط وتفكيك البوابات. حتى في اقتحام الأضحى ففي ظل الحضور الجماهيري، ورغم قلة عدد من بقوا حتى نهاية الفترة، بالكاد تمكنت شرطة الاحتلال من تأمين اقتحامٍ مسافته 60 مترًا تحت وابل مئات قنابل الصوت والغاز.
المحتل يعلم جيدًا أن افتتاح النفق أطلق هبة في 1996، وأن اقتحام الأقصى أطلق انتفاضة هي أقسى ما رسخ في وعيه من تجارب المقاومة في عام 2000، فهو يتفادى العودة إليها بأي ثمن، ولذلك هو يتراجع حين يشعر بأن ثمة احتمالًا ولو بسيطًا بفتح الطريق لوضعٍ مماثل. هو يدرك كذلك أن انتفاضة السكاكين عام 2015 أجبرته على التراجع عن محاولة التقاسم التام للأعياد، ومحاولة أداء الصلوات التي سبق له محاولة فرضها حينها.
في الوقت عينه يمرّ الكيان الصهيوني اليوم بأزمة حكمٍ غير مسبوقة، فبعد الانتخابات الثانية ما زال الاستقطاب مستحكمًا والبرلمان عاجزًا عن تشكيل حكومةٍ جديدة، رئيس الوزراء المكلف يُستجوب في قضايا فساد، واحتمال الانتخابات الثالثة يلوح في الأفق، فما هي فرص حكومة كهذه في التحدي والنجاح في مواجهةٍ شاملة حتى وإن اختارت الذهاب إليها تحت ضغط الأزمة؟
هناك حالة فراغ وتواطؤ رسمي عربي نعم، لكنها لم تمنع نصر باب الأسباط في 2017، هناك انحيازٌ أمريكي تام نعم، لكنه لم يمنع التراجع الصهيوني في باب الرحمة 2019، فلعلنا إذن نبالغ في تضخيم الأثر الميداني لهذه العناصر، هذا ما يشهد به الميدان.
قد يقول قائلٌ بأن هذا تفكير رغائبي، رغم أن كل ما سقناه أعلاه هي حقائق، ولنختبره فلنبحث عن إجابة هذا السؤال إذن: في 8-10-1990 كان الاحتلال مستعدًا لإطلاق الرصاص الحي وقتل 21 فلسطينيًا وجرح 250 دفاعًا عن اقتحام جماعة "أمناء الهيكل"، فلماذا لم يفعل ذلك ليدافع عن البوابات الإلكترونية في 2017، أو ليبقي باب الرحمة مغلقًا في 2019؟! لا شك أن يده على الزناد لم تعُد بهذه الخفة، وأن وراء ذلك أسباب من الخطأ الجسيم إهمالها.
ما العمل إذن؟
ميزان القوى لا يسمح للمحتل إذن بفرض تغييرات جديدة في الأقصى، لكن ميزان القوى لا يترجم نفسه تلقائيًا. القوة المناسبة لردع العدوان موجودة ومجربة، لكن مشكلتنا الحقيقية اليوم أنها كامنة ولا تحضر إلى المواجهة؛ وإذا ما استمر الوضع الحالي سينال المحتل ما يريد، ليس لأنه قوي بما يكفي، بل لأننا قصّرنا في استخدام ما بين أيدينا من أسباب القوة.
لقد مررنا خلال الأعوام الثلاثة الماضية بتجربتين جماهيريتين. في التطبيق، كلاهما مرتا بنفس المسار تقريبًا: قلة قليلة تثبت وتبدي استعدادًا للمواجهة، فتُشكل نقطة ارتكاز يطمئن الناس إلى حضورها، فيبدأ الناس بالتجمع حولها. في الصلوات الأولى على الأبواب في 2017 ثبتت القلة وأصرت على التجمع رغم التفريق المتتالي، وفي يوم 19-2-2019 خاض أربعون شابًا المواجهة مع القوات الخاصة فأزالوا الباب الحديدي أمام مصلى باب الرحمة. في اليوم التالي لم تتطلب إزالة الباب أكثر من ثلاثة أطفال، والشرطة لم تحرك ساكنًا، فقد أدركت أن نقطة الارتكاز بُنيت، وأن الجماهير حضرت، وأن المواجهة الآن باتت في غير مصلحتها.
تُدرك شرطة الاحتلال هذا التشخيص، ولذلك هي تركّز ضغوطها على من تعدّهم الكتلة المركزية من النشطاء، القادرين على بناء نقطة الارتكاز هذه، فتبعدهم عن الأقصى قبل مواسم التصعيد، أو تعتقلهم وتخترع لهم التهم، أو ترهقهم بالضرائب والغرامات وإنذارات الهدم، أو منع العلاج عنهم.
لماذا الأقصى مكشوفٌ اليوم؟ لأنّ هذه الكتلة اليوم مرهقة ومثقلة، ودفعت وحدها ثمنًا كبيرًا، ونادرًا ما وجدت من حولها إسنادًا مجتمعيًا أو فصائليًا، ونحن بحاجةٍ اليوم إلى تجديد الكتلة ورفدها.
الحل عمليًا يبدأ من نقطة الارتكاز في كل مواجهة، واليوم إذ يغيب التنظيم عن المجتمع الفلسطيني فإن استحضار الحد الأدنى منها مرهونٌ بوقف تقاذف المسؤولية. يمرّ المجتمع المقدسي والفلسطيني عمومًا بحالة مرضية من تقاذف المسؤولية: المجتمع يطالب الفصائل والفصائل تلوم السلطة أو تناشد الدول العربية، والدول العربية والسلطة تناشد المجتمع الدولي؛ وتحت كل زَبَد المناشدات هذا يقرر وقائع الميدان أفراد يعتبرون أن سلسلة التقاذف العبثة هذه تنتهي عندهم.
الخطوة العملية الأولى تبدأ اليوم من إلغاء افتراض أن هناك من يقوم بالواجب، وأن يعترف كل فردٍ قادرٍ على الوصول إلى الأقصى بأنه سيذهب ليتحمل المسؤولية الغائبة التي لا يتصدى لها أحد فيتقدم إلى الصلاة والرباط، حينها يمكن أن تتلاقى إرادات قلة تملك المواصفة اللازمة لبناء نقطة ارتكاز، وحينها يصبح الطريق مفتوحًا نحو التجمع حولها، وإن كان هذا التجمع يتطلب شروطًا أخرى من التعبئة والتأثير والتواصل، وليس نتيجة حتمية لأي موقف ثبات لهذه القلة.
خطوة يجب أن تردفها خطوات تُعيد الاستثمار بالمجتمع المقدسي، وببناء الفرد فيه، وبتعزيز فكرة المسؤولية، وهذا مخاض آخر لا يجد من يخوضه كما يجب حتى الآن، وإن كان يجد كثيرين يدعونه.