يمثل العنصر البشري العصب الحقيقي للمساس بمصالح أي دولة وضرب أمنها الداخلي، وتعريض مصالحها للخطر إذا ما تم استخدامه من جهات معادية، وبالرغم من التطور الحاصل على صعيد استخدام أجهزة الاستطلاع والتجسس الإلكترونية الحديثة، سواء عبر الأقمار الصناعية أو الطائرات وغيرها من الأجهزة والمعدات، إلا أن أجهزة المخابرات ما زالت تعتمد في مهماتها العملياتية الخاصة بـ(جمع المعلومات) على العميل الأرضي أو بمعنى أدق العنصر البشري، فهذا الأخير يمكنه في كثير من الأحيان إيجاد تفسير منطقي ودقيق لما يحيط بالهدف، ويمكنه كشف ما لا تستطيع هذه الأجهزة الوصول إليه مهما بلغت درجة التطور والتعقيد.
لذلك يضع العدو الصهيوني نصب عينيه العمل على تجنيد مزيد من العملاء في ساحات المواجهة وساحات أخرى، بغرض إنجاح مهامه التي هدفت إلى السيطرة السياسية، والاقتصادية، والأمنية والعسكرية.. فالتخابر من أخطر التحديات التي يمكن أن تفتك بالمجتمع وتقوض استقراره وتعرض سلامته للاستهداف الدائم والمباشر.
العدو الصهيوني يستخدم وسائل عدة لاستدراج الأشخاص بغرض الإسقاط والتجنيد، ومنها الابتزاز بنشر تسجيلات خاصة للمستهدف قد تحمل علاقات غرامية، أو إفشاء أسرار خاصة قد تطيح به من منصبه القيادي بمستوياته المتعددة، أو ممارسة التهديد والتخويف بقطع مصدر رزقه سواء منع تصريحه أو منعه من السفر أو تعطيل دخول بضاعة، أو حتى استغلال مرضه، وفى حالات أخرى التهديد المباشر بالقتل، وأشدها خطورة استغلال أفكاره المتشددة والمناهضة للمجتمع لتجنيده بغرض الانتقام من مؤسسات المجتمع الرسمية والأهلية، واللعب على وتر إقامة الدين ومحاربة من يعطلون شريعة الله، فتتم تعبئته بطريقة خبيثة حتى يتجه في النهاية لاستهداف المجتمع، من خلال إفشاء أسرار الداخل إلى العدو ظنا منه أنه يخدم الدين، أو يتجه لتنفيذ عمليات تخريب تطال أهدافا متنوعة داخل المجتمع، في حدها الأدنى نشر الإشاعات والتحريض وتكفير المجتمع والسلطات، وفى حدها الأقصى قتل الأبرياء تقربا إلى الله على طريقته، أو تخريب أعمال المقاومة والإبلاغ عنها، وهذا سبب مباشر لتساقط البعض في وحل (التخابر) مع الاحتلال لسذاجتهم وضعف إدراكهم وانهيار مناعتهم أمام مساومة الشهوات والمصالح وأمام التهديدات، متناسين تماما خطورة خروجهم عن الصف الوطني ومعرضين شعبهم وأنفسهم إلى مآلات بالغة الخطورة والتعقيد.
أمام هذه الورطة يمكنهم العدول إراديا والتراجع عن ارتكاب أي فعل حتى وإن تسببوا بأفعال لصالح العدو، فما زالت جهات رسمية تفتح ذراعيها لفرص التوبة والتخفيف من حدة العقوبة، إذا ما قرر المتخابر مراجعة نفسه، واتخاذ موقف يحميه ويحمي مصالح شعبه، قبل فوات الأوان، وقبل أن يثخن في الجرم ويقع في نهاية المطاف في قبضة السلطات المختصة، ويكون مصيره أحكاما قضائية تصل إلى عقوبات مشددة، فضلا عن فضيحته بين أهله وجيرانه والناس عامة.
إن القوانين وقيم المجتمع لا يمكن أن تتسامح مع هذه الخيانة، إذا ما أصر صاحبها وأعرض عن التوبة والتراجع، واستمر متعاونا مع العدو، فهي مرض خبيث يفت في عضد المجتمع، خصوصا أنها تنال من المجتمع بأبشع صورة، وتصل بالمتخابر إلى حد يفقد فيه وطنيته بل وآدميته ليستمرئ قتل أبناء شعبه، بل يسهم في تسليم معلومات حول أقرب الناس إليه، قد تفضي إلى الاعتقال أو الاغتيال.
ويقول المؤرخ الشهير أرنولد تويبني: "إن تسع عشرة حضارة من أصل إحدى وعشرين قد تقوضت من الداخل بواسطة شبكات التجسس والمخبرين"، وقد أثارت قضية التخابر اهتمام قطاعات واسعة داخل المجتمع الفلسطيني، للبحث في آليات تعزيز المناعة الداخلية للمجتمع وحمايته من المحاولات الصهيونية الخبيثة، وصد هذا الاستهداف المباشر، وإفشال أغراض العدو الصهيوني وتفويت الفرصة عليه.
ولقد شاركت من موقعي كباحث قانوني إلى جانب العديد من الباحثين والمختصين والخبراء في ورش ولقاءات متعددة، هدفت لبحث الأسباب المؤدية للتخابر، وسبل الوقاية منها، قدمت خلالها مقترحات ودراسات وأوراق عمل، شاركت فيها قطاعات متنوعة وشرائح مختلفة داخل المجتمع الفلسطيني، وذهبت تلك اللقاءات إلى أهمية الانطلاق من نقطة تعزيز (الوعي) ثم الوعي الذي من خلاله يمكن أن نحصن المجتمع، وهذا حري بكل غيور أن يستنهض همته ويحرر عقله ويستنفر فصاحته، ويسن قلمه ليس في مهاجمة حملات إعادة الوعي، والتشكيك في غرضها وتوقيتها، ورد العمل القائم إلى دوافع غير مفهومة، بل أن يتخذ خطوات تلتصق بالجهد القائم ما دام متجها إلى الوطن وحماية المواطنين، فتعزيز الوعي لم يكن يوما عملا موجها أو سيفا مسلطا، بل كان يدا حانية رحيمة على شعبنا.