فلسطين أون لاين

يعيدك إلى قرون مضت.. مهرجان ينثر "رائحة التراث" بغزة

...
غزة/ نبيل سنونو:

قبل 66 عامًا كانت أم محمد الغماري طفلةً تلح على جارتها لتقتنص منها فرصة تعلم التطريز، أما اليوم فهي تمتلك القدرة الكاملة على إعادة الغزيين إلى قرون مضت، بما تصنعه من وجوه وسادات، وخرائط، ومعلقات تظهر العرس الفلسطيني، وغير ذلك مما يجمعه قاسم مشترك: هو الأشكال والألوان الوطنية.

ولئن كان ما تصنعه الغماري ينثر "رائحة التراث" التي تتسلل إلى أنوف الزائرين، فإن صوتها "المجعد" وملامحها السبعينية، تناغما تماما مع مهرجان هدفه "إعادتهم إلى قرون" مضت لإحياء التراث الوطني، بتنظيم من بلدية غزة أمام قرية الفنون والحرف المدمرة بصواريخ الاحتلال الإسرائيلي غرب المدينة.

وتزامنا مع يوم التراث الفلسطيني الذي يحل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول سنويا، توسطت المسنة منتجاتها التراثية، قائلة في دردشة مع صحيفة "فلسطين": "هذا تراثنا، وهويتنا".

ويحمل كل لون من الألوان المستخدمة في التطريز دلالة، إذ توضح الغماري أن الأحمر مثلا يشير إلى الدم الذي نزفه الفلسطينيون على يد الاحتلال، واستعدادهم للتضحية.

كما أن الفتاة العزباء ترتدي ألوانا مختلفة عن المتزوجة أو الأرملة، والكلام لا يزال للغماري، فضلا عن أن لكل مدينة سواء أكانت يافا أم غزة أم القدس أم غير ذلك حرفة أو زراعة تشتهر بها وتنعكس على تراثها.

وتنحدر هذه اللاجئة من قرية كوفخة قضاء غزة، بينما تقطن حاليا في مدينة غزة.

وتتحدى الغماري تقدمها في العمر، وحاجة ما تصنعه من منتجات تراثية إلى قوة نظر، قائلة: "النظارات تمثل عيونا أخرى".

وتسعى المسنة من خلال منتجاتها إلى ترسيخ التراث والهوية الوطنية في كل مناحي حياة الإنسان الفلسطيني، بما يشمل حتى حاويات المناديل، ومعلقات الحوائط التي طرزت عليها خريطة الوطن، والقدس.

وتعود إلى بدايات عملها في هذا المجال، بقولها: كان الأمر يمثل لي هواية مذ كنت أبلغ أربعة أعوام، عندما كنت أحرص على التعلم من جارتنا وهي تعيدني إلى بيتي بحكم صغري، لكنني صممت وبت أطرز لاحقا لمدرساتي ووالدتي، ثم تزوجت، وعندما مرض زوجي كانت هذه المنتجات تمثل كذلك مصدر دخل لي.

"دمي فلسطيني"

وعلى وقع أنشودة "أنا دمي فلسطيني" بلغ الحماس مبلغه في نفوس الحاضرين، ومنهم الأربعينية نسرين أبو لوز التي لا تزال تحتفظ بثوب جدتها اللاجئة المنحدرة من بئر السبع، وعمره أكثر من قرن.

"أحب كل ما يتعلق بالتراث، وأسعى إلى جمعه، مثلا هذه الثياب (تشير بيديها إلى ثياب عتيقة تراثية) كانت تستخدم أيام زمان، والعصاية البدوية، والسلال المصنوعة من النخل، والإكسسوارات، جميعها من تراثنا"؛ تقول أبو لوز لصحيفة "فلسطين".

وإلى جانب الغماري، تعرض أبو لوز شراشف أسرة مصنوعة من الصوف، وملفات للمواليد، ومنتجات فخارية، و"بكارج" و"قربة للخضة"، كانت تستخدم قديما.

محمد المنايعة انضم أيضًا إلى مهرجان التراث، ليعرض سلالا للخبز، و"قفف" لحمل البضائع، يصنعها في منزله لإحياء التراث.

ولا يزال حب قرية روبين قضاء عكا التي ينحدر منها المنايعة يسري في دمه وقلبه، بينما يقطن حاليا في دير البلح وسط قطاع غزة.

ويقول الشاب لصحيفة "فلسطين": "نحن نعتز بتراثنا، الذي ورثناه عن أجدادنا وآبائنا وأمهاتنا، ونغرسه في نفوس أبنائنا".

خطوات قليلة تقود الزائرين إلى الشاب الثلاثيني محمود فياض، الذي يحيي التراث المتعلق بـ"الشبرية" والسيف اللذين نقش عليهما اسم فلسطين.

وعندما يخرج فياض السيف من غمده ليعرضه كرمز تراثي أمام الحاضرين، يرن صوته رنا، كأنهم في أرض معركة تصهل فيها الخيول.

"أصنع الشبرية والسيف لكونهما من تراث البادية، وقد كانت قديما تستخدم للحماية من الأشياء الضارة سواء الحيوانات أو ما شابه، كما أن السيف كان يستخدم في المعارك، بينما اليوم هما رمز أو تحفة تهدى للمخاتير والشخصيات المهمة لاسيما مع المساعي الحثيثة لإحياء التراث ووجود فرق الدحية"، والكلام هنا لفياض.

وعلى بعد أمتار كان إبراهيم المقوسي (38 عاما) وآخرون كسا الشيب رؤوسهم يتوسطون خيمة يطلق عليها "بيت شعر"، تفوح منها رائحة التراث.

والمقوسي لاجئ ينحدر من قرية دمرة شمال شرق غزة، ويتمسك بالعودة إلى أرضه.

ويكافح الفلسطينيون لصون تراثهم في ظل الهجمة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي لسلبه والقضاء عليه.

جذور ممتدة

"هذا المهرجان يعيد للذاكرة الفلسطينية تراثنا الشعبي"؛ والكلام هنا لرئيس بلدية غزة د. يحيى السراج.

وبينما يتجول السراج في أنحاء المهرجان، يقول لصحيفة "فلسطين": يعلم هذا أولادنا التاريخ الحقيقي للشعب الفلسطيني، وجذوره الممتدة في هذه الأرض.

ولعل أبرز ما يحققه المهرجان هو أنه نقل رسالة من الأجداد إلى الأحفاد بالحفاظ على التراث، وفق السراج.

وإنْ انتهت فعاليات المهرجان، فإن روح التراث تسري في نفوس الفلسطينيين بلا انتهاء.