فلسطين أون لاين

الهروب إلى الانتخابات تهربًا من الأولويات

...
معتصم حمادة

عشية سفر الوفد القيادي الفلسطيني إلى نيويورك، للمشاركة في الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة، صرح بعض أن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ستعقد اجتماعًا في حضور رئيسها، لوضع خطة وبرنامج التحرك بالمنظمة الدولية.

قبل ساعات على عقد الاجتماع كان الوفد قد سافر إلى العاصمة الأردنية عمان، ثم إلى النرويج، وبعدها إلى نيويورك، وبذلك غابت اللجنة التنفيذية عن المشاركة في وضع خطة التحرك في نيويورك.

اجتمعت اللجنة التنفيذية، ولم تجد شيئًا تناقشه، سوى البحث في إصدار بيان عن أعمالها، لكنها لم تجد من يكتبه أمام اعتكاف بعض عن ذلك، احتجاجًا على تردي الوضع في اللجنة.

لذلك صدر بيان هزيل، مفكك، فيه من كل وادِ عصا، وعن كل قضية فقرة، لكنه مع كل ذلك افتقر إلى الرؤية السياسية، وبدا أكثر هزالة من بيان يصوغه تلاميذ في مدرسة ابتدائية.

لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل استمرت آلة الإنتاج والتعفيش الإعلامي المفبرك تعمل بكل طاقتها، تمهيدًا لاستقبال خطاب الوفد الفلسطيني إلى الجمعية العامة.

رياض منصور، سفير فلسطين في الأمم المتحدة، ورياض المالكي، وزير خارجية السلطة الفلسطينية، قد أوضحا أن الخطاب سوف يعيد تأكيد قضايا قديمة، وأنه لن يحمل جديدًا، وأن نقطته الجوهرية هي تأكيد مبادرة 20/2/2018م، الداعية إلى استئناف مفاوضات أوسلو، لكن بعض المحافل السياسية في رام الله أخذت على عاتقها زرع الوهم بأن الأمم المتحدة تنتظر مفاجأة فلسطينية، حتى إن بعضًا، كاللجنة المركزية لحركة فتح، أعلن تأييده الخطاب، ووقوفه خلف السياسة التي يحملها الخطاب، حتى قبل إلقائه أمام المحفل الدولي، ما أثار استغراب المراقبين، ودهشتهم، واضطرهم إلى الوصول إلى خلاصات سياسية، نظر بها إلى المؤسسة الفلسطينية نظرة دونية.

ألقى الوفد الفلسطيني خطابه، وكما علقت الدوائر السياسية، فقد لقي ردود فعل باهتة، بل إن بعضًا أحس وكأن الخطاب باغت الحالة الفلسطينية بما حمله من مواقف ودعوات، وعمّق إحساسها بالمأزق السياسي الذي تعيش فيه السلطة الفلسطينية وقيادتها.

الخطاب كان حافلًا بالشكاوى، والتظلمات، مرة ضد الولايات المتحدة، ومرات ضد قوات الاحتلال وحكومته.

لكنه بالمقابل خلا من أي خطة، أو إستراتيجية سياسية، تعبر عن رؤية معينة لدى القيادة الفلسطينية، لمواجهة السياسات الأميركية والإسرائيلية، كان خطابًا بلا مضمون فعلي، حتى ردود الفعل عليه كانت باهتة، ولم تنجح الآلة الإعلامية، في رام الله، مع ما هو متوافر لها من إمكانات ضخمة، أن تروج للخطاب، وأن تبني حوله أجواء الترحيب، وأن ترتقي به إلى مستوى الاهتمام المطلوب.

إذ سرعان ما تلاشى أثر الخطاب في النفوس، ولم يتبق منه، وحوله، سوى التعليقات على بعض المواقف النافرة التي ألحقت الضرر بالحالة المعنوية الفلسطينية.

لقد أدرك الفلسطينيون أن السلطة الفلسطينية وقيادتها تعيشان في حالة إفلاس مركبة: إفلاس مالي، بعد قرار وقف تسلم أموال المقاصة ثم البحث عن «حل التفافي» لتسلمها على دفعات، وإفلاس سياسي، لا يملك الحد الأدنى من الإرادة السياسية لمواجهة المخاطر التي تحدق بالقضية والحقوق الفلسطينية، سوى المحاولات الفاشلة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لإحياء اتفاق أوسلو، بعدما أعلنت حكومة الاحتلال وفاته.

حتى كلمات الوفود العالمية في الجمعية العامة للأمم المتحدة تجاهلت القضية الفلسطينية، ومنهم وزير خارجية دولة الاحتلال نفسه، الذي كان محور كلمته «الإرهاب الإيراني»، متجاهلًا القضية الفلسطينية، ولولا بعض الجمل التي قالها وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، عن سياسة الولايات المتحدة إزاء الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية، ومحاولاتها الدؤوب لنسف قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي أساسًا للحل؛ لخلت كل الكلمات من أي أثر لقضية فلسطين.

ولا نعتقد أن هذا التراجع الدولي بالاهتمام بالقضية الفلسطينية سببه طبيعة القضية نفسها، بل السبب يعود إلى سياسة السلطة الفلسطينية وسياسة قيادتها، وتراجعها المستمر، ورفضها التقدم إلى الأمام، ومحاولاتها للتلطي خلف الشرعية الدولية، وتحميلها وحدها مسؤولية السياسات الإسرائيلية، في تهرب واضح من المسؤولية الملقاة على عاتق السلطة في التصدي الميداني للاحتلال، وتطبيق ما رسمته المؤسسة الوطنية من قرارات وسياسات وإستراتيجيات.

■■■

ما زاد في دهشة المراقبين إعلان تنظيم انتخابات شاملة في مناطق السلطة الفلسطينية، من على منبر الأمم المتحدة، ترى ما علاقة الدورة العادية للمنظمة الدولية بقرار الفلسطينيين تنظيم انتخابات لإعادة بناء مؤسساتهم الرئاسية والتشريعية في السلطة وفي (م.ت.ف)؟

لم يسبق لأي رئيس أن فعل الأمر نفسه، في سابقة دولية، ما اضطر المراقبين إلى وضع هذه الدعوة في إطارها الصحيح، ردًّا على ما أثاره القرار من تساؤلات: من السلطة المعنية باتخاذ قرار بتنظيم الانتخابات الشاملة؟، لماذا لم يتشاور بذلك مع اللجنة التنفيذية؟، عدم التشاور معها زادها تهميشًا، وعمق عزلتها عن المسار العام للحالة الفلسطينية، وبات يطرح أسئلة جدية عن جدوى بقائها عالة على الحالة الفلسطينية.

ما طبيعة النظام السياسي الفلسطيني: أنظام برلماني ديمقراطي هو، كما تنص وثائقه، أم نظام رئاسي يديره رئيس خارج رقابة أي مؤسسة؟

فضلًا عن ذلك، في أي سياق سياسي تندرج هذه الدعوة؟، وما أولويات العمل الوطني الفلسطيني: هل الانهماك الآن في نقاش عقيم بشأن الانقسام، وكيفية إنهائه، وإمكانية إجراء الانتخابات في القدس، أو ضمان عدم تدخل حماس في الإشراف على الانتخابات (كما هو متوقع أن تعلنه رام الله شرطًا لازمًا)، أم أن الأولوية الآن هي إنقاذ المشروعالوطني الفلسطيني، كما رسمتها دورات المجلس المركزي (27 + 28) والوطني (23) في الخروج من أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي، وإطلاق سراح القضية الفلسطينية من قيودهما والتزاماتها، وإعادة بناء الإستراتيجية السياسية الكفاحية للحالة الوطنية الفلسطينية؟

ليست الأولوية الآن أن تدخل السلطة الفلسطينية «اشتباكًا» مع الاحتلال الإسرائيلي بشأن سماحه لها بتنظيم انتخابات دون تدخل منه، أو السماح لها بإشراك المقدسين في الانتخابات.

وليست الأولوية الآن العودة إلى «الاشتباك» مع حماس بشأن عدم التدخل في أعمال لجنة الانتخابات المركزية أو التدخل في حرية الاقتراع.

ليست الأولوية الآن أن تتراشق الحالة الفلسطينية بالاتهامات بشأن شروط تنظيم الانتخابات ونجاحها، للوصول فيما بعد إلى إلغائها، وتحميل هذا الطرف أو ذاك مسؤولية الإلغاء.

الأولوية الآن هي حسم العلاقة مع دولة الاحتلال: هل هي «شريك» في عملية سلام وهمية عبر مفاوضات لا تتوافر الشروط الوطنية لانعقادها، أم هي دولة احتلال واستيطان، نظام (آبارتهايد)، عنصري، تقوم العلاقة معه على قاعدة الصراع الميداني والسياسي بكل أشكال المقاومة؟ خطاب نيويورك تهرب من هذه الخلاصة فهرب إلى الانتخابات.

--