فلسطين أون لاين

​دعائم الاستقرار

دعائم الاستقرار

أحمد أبو زهري

لا تخلو المجتمعات من التدافع والاختلاف فيما بينها، فالبشر مختلفون في ثقافاتهم وطباعهم وحتى تعاملهم مع الأحداث التي يتعرضون لها، كما أن فروقا كبيرة في مستويات الوعي، والقدرة على التكيف مع الظروف، والسعي لتحقيق المصالح تظهر بينهم بنسب متفاوتة، وتلعب أسباب كثيرة دورا بارزا في تشكيل قناعات الآخرين، وبناء شخصياتهم وتعزيز أنماط سلوكهم، لكن منها ما يكون حميدا بحيث ينسجم مع مصالح المجتمع ويسعى في بنائه ويكون إحدى دعائم الاستقرار، ومنها ما ينحرف ويشكل خطرا على أمن المجتمع واستقراره، ولكل هؤلاء ظروف وبيئة حاضنة في ضوئها يتشكلون.

فالتربية التي تبدأ من الأسرة والمسجد والمدرسة والنادي هي الحواضن الدافئة لتشكيل وبناء الجيل وإمداده بمكتسبات ثقافية وتربوية وعلمية وقيمية، ومتى حدث اختلال بين هذه السلسلة سواء إذا ما ظهر قصور أو تراجع في دور أي منهم، أو حدثت التعبئة بشكل غير صحي أثر في حالة التكامل في تعزيز وبناء هذه الشخصية، وانعكس سلوك الأفراد على مصالح المجتمع، وعلى النظام العام برمته، فتظهر السلوكيات المنحرفة وترتفع نسب الاعتداءات والجرائم بصورها المتعددة سواء البسيطة أو الخطيرة، سواء كانت مخالفات أو جنحا أو جنايات.

وهذا ما يكلف الدولة مصروفات إضافية وجهودا هائلة بين السعي لمنع الفوضى والحفاظ على النظام العام وتعقب كل من يحاول المساس بهذا السياج الذى يحيط بالمجتمع، من خلال إنفاذ وتطبيق القانون، لأن أي تقاعس في هذا الدور قد ينسف دعائم الاستقرار ويودي بحياة ومصالح الآخرين ويهدد النظام القائم، ويعكس صورة غير حضارية وغير أخلاقية عما يحدث في مجتمع ما.

وفي مجتمعنا الفلسطيني بالتحديد فإننا نعيش ظروفا استثنائية في ظل حالة الاستهداف المتعمد من الاحتلال الاسرائيلي، فالاحتلال والحصار والقمع والإجرام الإسرائيلي كلها تسهم كثيرا في تراجع مستوى التعليم ويؤثر بشكل واضح في تماسك البناء الأسري والاجتماعي كما المرافق الأخرى، كما أن بعض الثقافات الغريبة التي حاول ويحاول تمريرها على شعبنا شكلت ضررا مباشرا وأقصد هنا أي ثقافة لا تتناسب مع القيم والعادات والتقاليد ومبادئ وتعاليم الدين الحنيف، إضافة إلى الاستهداف المنظم من خلال تغذية المجتمع بالإشاعات والأكاذيب للتأثير على المفاهيم العامة ومنها محاولات المساس بمكانة وأهمية المقاومة، وإحداث شرخ بين قاعدة المجتمع وقيادته، وخلخلة الثقة بين الأفراد وبين المؤسسات التي يعملون بها أو يتلقون منها الخدمة، وهدم صورة الترابط والتعاضد بين مكونات المجتمع، من خلال التحريش بينهم ودفعهم للاقتتال.

إن التجارب أظهرت أنه دوما كانت هناك أطراف أخرى دخيلة سعت الى تأجيج الصراعات ودفع الاخرين للنزاع والصراع فيما بينهم، فما لم يستطع العدو الاسرائيلي تحقيقه من خلال المواجهة العسكرية المباشرة مع المقاومة، يمكن تنفيذه بوسائل أخرى من خلال إلهاب مشاعر المجتمع وزرع بذور الفتنة لإحياء تراث القتل والثأر والاغتيال.

لذلك فنحن مطالبون بالاضطلاع بدورنا في هذا المجتمع وتحمل مسؤولياتنا من أصغر فرد وأقل سلم وظيفي وحتى أعلى الهرم مهما كان عملنا ووظيفتنا أن نقدم ما يمكن أن يحمي ويحافظ على نسيج المجتمع سواء في سلوكنا وتصرفاتنا وعلاقاتنا الشخصية والأسرية وحتى مع العامة، أو في طريقة وجودة الخدمة التي نقدمها للغير حتى نقوي مناعة المجتمع ونحافظ على دعائم استقراره مطالبين برعاية أسرنا جيدا، وإعطاء وجبة تعليمية مناسبة ودسمة للطلبة وزرع مفاهيم قيمية سامية في هذا الشأن، مطالبين بتعزيز القيم الدينية من خلال الوعاظ والخطباء وغيرهم ممن ينشطون من خلال المساجد لزرع بذور المحبة والعفو والتكافل، ومن خلال العلاقات الشخصية ورجال الاصلاح أن نفكك الخلافات ونخمد أي صراع في مهده.

ولوسائل الإعلام دور مهم في المسؤولية، من خلال كشف الحقائق وتوجيه الرأي العام والتصدي للشائعات، و لمؤسسات المجتمع المدني دور في رفع مستوى الخدمة واحداث شراكة في معالجة الملفات والقضايا المجتمعية، خصوصا المنظمات الحقوقية المطلوب منها أن تأخذ دورا ومساحة أكبر في معالجة أي انتهاكات ورفع مستوى الوعي القانوني لدى شرائح المجتمع أو لدى المكلفين بإنفاذ القانون، وهنا يأتي دور المنظومة الأمنية في حماية المصالح ورعاية الحقوق والعدالة في تطبيق القانون ومحاربة الظواهر الأمنية الأخرى التي يقف خلفها الاحتلال، وتكون الكلمة الفصل للقضاء لترسيخ قواعد العدل والانصاف من خلال احقاق الحق واصدار الاحكام العادلة التي من شأنها زرع الثقة لدى المواطن بأنه يمكن الحصول على حقوقه بطريقة حضارية بعيدا عن شريعة الغاب وقانون الاقوى والميل للثأر والقتل خارج نطاق القانون.

عند قيام كل جهة بمسؤولياتها سنشهد استقرارا غير مسبوق وانخفاضا للجريمة وخروجا من كثير من الأزمات، وتجاوزا لتحديات جسيمة طالما عانينا منها، مع تأكيد أن بإمكاننا القيام بما هو أفضل من ذلك، فما ذكرت على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر فالمقام لا يتسع لذكر جهات ومكونات مهمة أخرى تسهم في تعزيز القيم الإيجابية في المجتمع الفلسطيني.