بعيدًا عن الجدل في إمكانية نجاح نتنياهو في تشكيل حكومة للمرة الخامسة أو فشله في تشكيلها للمرة الثانية، وابتعادًا عن الخوض في السيناريوهات المتوقعة لما ستؤول إليه الأمور، لأن التعقيدات التي تشهدها الحلبة السياسية في (إسرائيل) لم يسبق لها مثيل، فقد أوصلت كبار المحللين والمختصين إلى مرحلة الحيرة والارتباك في كيفية رسم الخريطة السياسية المستقبلية أو ترجيح سيناريو على الآخر لحل أزمة الفراغ السياسي، ومع ضبابية المشهد وتعقيداته؛ إن التطورات الأخيرة تكشف عن بعض ملامح هذه المرحلة:
أولًا: تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وقد تمثلت في إصرار نتنياهو على ترأس الحكومة رغم خسارته في الانتخابات، إذ إنه يرى في منصب رئيس الحكومة طوق النجاة الذي يمنحه حصانة نسبية في مواجهة قضايا الفساد الموجهة ضده, إذ أسرع إلى تشكيل كتلة مع أحزاب اليمين لاستخدامها درعًا واقيًا لمنع سقوطه، ووسيلة فعالة لإفشال محاولات خصمه تشكيل الحكومة, وقد حظي بدعم من حزب ليكود وغطاء من تلك الأحزاب مقابل تعهده بعدم التخلي عنها وتشكيل حكومة دونها, وفي المقابل أصر قادة حزب أزرق أبيض على تولي بيني جانتس رئاسة الحكومة على أساس أنه الفائز في الانتخابات، وعدوها فرصة ذهبية للتخلص من نتنياهو وإزاحته عن الحلبة السياسية بعد أن تفرد بها سنوات طويلة, ما يعني أن ما يقارب 9 ملايين إسرائيلي أصبحوا رهينة لنزوات شخصية ومصالح حزبية ضيقة.
ثانيًا: فشل رئيس "الدولة" رؤوفين ريفلين في إقناع قادة أكبر حزبين بإيجاد صيغة أولية لتشكيل حكومة وحدة وطنية، رغم تعهده باستخدام أساليب إبداعية؛ يدل على عمق الأزمة وصعوبة حلها، وإن تدخله غير المسبوق يعبر عن مدى خشيته استمرار حالة الفراغ السياسي وعواقبه السلبية، التي تجلت في عدم القدرة على تعيين مسئولين كبار، كالمفتش العام للشرطة ومدير مصلحة السجون, وعدم القدرة على إقرار ميزانيات للمشاريع المهمة، أو إيجاد حلول لتفاقم العجز في الميزانية التي وصلت إلى مستوى فاق التوقعات.
ثالثًا: الاتهامات التي وجهها نتنياهو لمنافسه بيني جانتس، بأنه يسعى إلى تشكيل حكومة تعتمد على الأحزاب العربية، ووصفهم بالإرهابيين؛ يُجسدان تفشي العنصرية الإسرائيلية بأقبح صورها، لكن الأمر لا يقتصر على رؤية نتنياهو واليمين المتطرف، أو العداء والكراهية اللذين يُظهرهما ليبرمان لكل ما هو عربي، بل يطال حزب أزرق أبيض الذي يُصنف ضمن معسكر الوسط، فقد أعلن عضو الحزب تسفيكا هاوزر أن حزبه لن يقبل مشاركة الأحزاب العربية، ما يكشف زيف ادعاءات (إسرائيل) بأنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط.
رابعًا: تبني سياسة "فرق تسد"، إذ يسعى كل معسكر إلى تفكيك المعسكر الآخر بعدة طرق، فإما تفكيكه بإغراء أحد الأحزاب المشاركة فيه لإضعافه, كما فعل نتنياهو حينما عرض على حزب العمل ثلاث حقائب وزارية منها حقيبة المالية، مع أنه حصل على ستة مقاعد فقط, أما الوسيلة الثانية فهي تفكيك الحزب من الداخل، وقد تجلى ذلك بمحاولة نتنياهو الاستفراد بزعيم حزب أزرق أبيض، وتوجيه الاتهام إلى شريكيه (يائير لابيد وجابي أشكنازي) بالمسئولية عن إفشال الجهود لتشكيل حكومة وحدة وطنية, أما حزب أزرق أبيض فقد تبنى الأسلوب نفسه حينما تحدث عن محاولة نتنياهو تشكيل حكومة دون مشاركة الأحزاب الدينية، بهدف تفكيك الشراكة التقليدية بين ليكود وأحزاب اليمين، وإقناعهم بأن نتنياهو قد تخلى عنهم, واشترط استبدال شخصية أخرى بنتنياهو لتشكيل حكومة وحدة وطنية لإحداث حالة من الانقسام داخل حزب ليكود.
خامسًا: فشل مشروع بوتقة الصهر المتمثل في جمع شتات أطياف المجتمع الإسرائيلي، ودمج ثقافاته في إطار واحد، رغم مرور أكثر من سبعة عقود، ورغم الجهود والإمكانات الهائلة التي خُصصَت لإنجاحه؛ فحالة التشرذم والكراهية امتدت لتطال الجميع، ولم تقتصر على طائفة دون أخرى أو تيار دون آخر، فبين حريدي غربي وحريدي شرقي، واليمين العلماني واليمين القومي، واليسار والوسط ووسط الوسط، كل طرف يسعى إلى فرض سيطرته وإخضاع الآخر.
إن كثرة الأحزاب، واختلاف رؤاها، وتمسك كل واحد منها برأيه دون إظهار أي استعداد للمرونة تصعب التوصل إلى اتفاق بشأن طابع الحكومة وتشكيلتها, لذلك إن أي حكومة قادمة لن تنعم بالاستقرار لأن معسكر اليمين لن يتخلى عن الحكم بسهولة، وسيعمل على إفشال حكومة الوسط وإسقاطها قبل إتمام مدة ولايتها, وستحرص أحزاب الوسط على التمسك بالفرصة التاريخية لاستبدال حكم اليمين وإفشال جهوده في تشكيل حكومة بديلة.