أغلق الاحتلال في وجهه كل أبواب الحرية، حرمه الشباب وهو على أعتابها ثم أراد أن يحرمه حرية الكبر وهو أيضا على أبوابها، ذهبت سنين العمر بلياليها وأيامها وساعاتها بين قضبان مظلمة، أربعة وثلاثون عاما متواصلة ذاق خلالها الأسير البرغوثي (59 عامًا) مرارة السجن وعانى ظلمه، وتقلب لياليه وانصرام أيامه الثقيلة.
"نائل البرغوثي " أسيرٌ من بلدة كوبر في محافظة رام الله والبيرة، أمضى أطول مدة اعتقال في سجون الاحتلال والبالغة (36 عامًا) قضى منها (34 عامًا) بشكل متواصل، بعد أن أفرج عنه في 2011 م في صفقة التبادل بين المقاومة والاحتلال مقابل الإفراج عن الجندي جلعاد شاليط.
إلا أن سلطات الاحتلال أعادت اعتقاله في حزيران عام 2014، وأصدرت بحقّه حكمًا بالسجن الفعلي لمدة (30 شهرًا)، وقد أنهى محكوميته بتاريخ 17كانون الأول/ ديسمبر 2016م، لكنها مددت اعتقاله لشهرين، ثم أعادت الحكم السابق في 22 فبراير/ شباط الجاري بالمؤبد و18 عاماً.
"شهر بالكثير"
على مستوى أسرته، اعتقل الاحتلال نائل عام 1978م، ولديه شقيقان (عمر وحنان)، حينما اعتقله الاحتلال برفقة شقيقه عمر الذي كان متزوجا ولديه طفل عمره عام اسمه " عاطف "، كان عمر حنان 13 عاما، لكن عمر خرج عام 1985م، وبعد ذلك اعتقله الاحتلال بفترات مختلفة لمدة " 26 عاما "، كان والداهما يزورانهما باستمرار داخل السجون.
كان سبب اعتقال بطل الحكاية بتاريخ (4-4-1978) حين اتهمه الاحتلال بمشاركة شقيقه الأكبر عمر وابن عمه فخري البرغوثي بقتل ضابط صهيوني شمال رام الله، وحرق مصنع زيوت بالداخل المحتل عام 1948، بالإضافة لتفجير مقهى في القدس؛ ولم يكن حينها يتجاوز التسعة عشر ربيعاً.
" ايش جاي على بالك يما ؟ " .. والدة نائل تسأله في إحدى الزيارات، فكان رده .." جاي على بالي أنام على تخت وأمد رجلي " مفاجئاً لها؛ فهي تعلم مساحة الغرفة الضيقة التي كان نجله مسجونا فيها.
ومع مرارة الأيام، توفي والدا البرغوثي وهما بالأسر، لكن الاحتلال لم يسمح لهما بالخروج لمواراته الثرى، وبقيت الأعوام تمضي، حتى خرج نائل بصفقة التبادل عام 2011م، فوجد شقيقته حنان أصبحت جدة ولديها أولاد متزوجون.
أما " عاطف " ابن أخيه الذي كان عمره عاما فتزوج وأنجب أيضا، في ذات العام كان أول لقاء للإخوة الثلاثة لأول مرة خارج المعتقل بعد 35 عاما من الحرقة، لكن تلك المدة لم تطل فأعاد الاحتلال اعتقال نائل وعمر في 14-18 يونيو/ حزيران 2014م، كما تحدثنا إيمان نافع التي فتحت ذكريات الأسر عن زوجها الأسير نائل البرغوثي لصحيفة " فلسطين ".
عمر لديه أيضا ابن آخر "عاصم" اعتقله الاحتلال وحكم عليه 11 عاما، وحنان لديها ابن محكوم عليه بالسجن 15 عاما، لتتجدد المعاناة مع الأسر لهذه العائلة.
تدخل نافع إلى السجن ولكن هذه المرة من بوابة الذكريات، مستذكرة أن زوجها كان لديه تفاؤل كبير، حتى أن الأسير الجديد كان يعتقد أن نائل معتقل جديد أيضا لأنه لم يظهر عليه سنوات الاعتقال الطويلة، كذلك تعلم اللغة العبرية وكان مدرسا لها، وكان يعشق التاريخ ويسمونه في السجن "جوجل فلسطين"، يعودون إليه بأي معلومة، يقرأ الجريدة التي يسمح الاحتلال بدخولها للمعتقل حرفا حرف، يتابع الأحداث جيدا ليعلم ما يدور في الخارج، كان الأسرى يعتبرونه الأب الحنون.
وما أن صدر حكم الاحتلال بإعادة حكم المؤبد لنائل، " قريبا راح أروح .. شهر بالكتير " .. هذا ما قاله نائل لزوجته واخته حنان التي صرخت بالمحكمة بأن الحكم ظالم وأن القسام سيخرج شقيقها، وما أن صرح القسام على لسان المتحدث باسمه أبو عبيدة ردا على الحكم " بأنه لا قيمة له وأن تحرير الأسرى مسألة وقت ", اتصلت إيمان بحنان تمازحها .. "يبدو أن القسام بعتلك الإجابة"، ثم تكمل نافع في حديثها لنا: " إن هذه التصريحات تُثلج صدورنا لأنها تصل إلى الأذن التي نريد أن تسمعها، ونحن على ثقة أن من أخرجهم بالمرة الماضية سيُطلق سراحهم هذه المرة ".
كانت نافع ذاهبة إلى المحكمة تضع ثلاثة احتمالات قبل إصدار الحكم، الأول أن يعود زوجها الأسير نائل البرغوثي لبيته، أو يعيده الاحتلال إلى السجن، أو يحكمه مؤبدا مرة أخرى، لكن الاحتمال الثالث كان هواجس بالنسبة لها ولم تتخيل أن يحدث، نظراً لعمر زوجها الذي هو على أعتاب ستين عاما.
كواليس ما قبل الحكم
لكن الاحتلال الإسرائيلي الذي أتى بما هو غير متوقع أعاد حكم البرغوثي ( مؤبد و18 عاما)، تصف نافع اللحظات التي سبقت توقعات الإفراج عن زوجها، قائلة: " جهز نائل نفسه للخروج من السجن، كان يلبس ملابس الخروج، معه صور العائلة التي حصل عليها في بعض الزيارات ".
" ماذا أقول !؟ .. هذا احتلال لا نستغرب منه أي شيء؛ لكن الفرج قريب".. لا تزال تعبر عن استيائها من حكم الاحتلال، ثم تتابع: " حينما اعتقله الاحتلال 30 شهرا وانتهت ومدد الاحتلال اعتقاله لمدة شهرين كنا نجهز لاستقباله وفي نفس الوقت ننتظر من الاحتلال الإعلان عن ذلك لأنه أعاد أحكام المؤبدة لأسرى سابقين ".
"لا يكفي الاحتلال ما اقترفه باعتقاله 36 عاماً، خرج نائل وأمه ووالده متوفيين، لم يتنفس الحرية كما يجب"؛ تستغرب من الصمت الدولي أمام ما حدث مع زوجها.
إلا أنها تذكر أن محامية الأسير البرغوثي رفضت الذهاب إلى المحكمة، قائلة: " نريد الذهاب بملفات زوجك إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، رغما أننا لا نعول على طرقهم القانونية لأن العليا أعادت أحكاما سابقة لأسرى سابقين ".
حرية مؤقتة
تذكر إيمان أن زوجها تنفس الحرية بعد 34 عاما من الاعتقال المتواصل في سجون الاحتلال بتاريخ 18 أكتوبر/ تشرين أول 2011م، وتزوجا في 18 نوفمبر/ تشرين ثاني من نفس العام، ولم تمض ثلاث سنوات حتى أعاد الاحتلال اعتقاله في 18 يونيو/ حزيران 2014م، مخترقا صفقة التبادل " وفاء الأحرار 1 ".
وتقول: "نفهم أن إعادة الحكم للضغط على المقاومة في غزة، ولكن هنا قضية إنسان يتعرض للألم في كل ثانية، منذ 36 عاما وشهرين وما تحمله من عذابات التنقل من سجن إلى آخر.
"ما حدث جريمة يجب أن يحاسب عليها الاحتلال، هذا الرجل يتعذب في كل لحظة"؛ تصف ما حدث مع زوجها، مضيفة: "صحيح أن غزة بها حصار لكنهم ينامون بدون خوف، لا أن يدخل الجنود ليلاً مقتحمين بيوت زوجات الأسرى بوجود السلطة التي سمحت لليهود والمستوطنين بالعربدة ".
ولما أعاد الاحتلال اعتقاله، والكلام يبقى لنافع، كان الخبر صادما ومفاجئا، كون البرغوثي أمضى جل سنين عمره بالأسر، وتزيد: "حتى الفترة التي خرج بها ما بين 2011-2014م كان بإقامة جبرية لا يسمح له بالخروج خارج رام الله، التحق لدراسة التاريخ بجامعة القدس المفتوحة، التقى بأصدقائه، وأعاد ممارسة هوايته بزراعة الأرض".
تتحدث عن فترة اعتقاله بعد زواجهما، بأنه لم يسمح لها الاحتلال بالحديث معه أو مقابلته، فكانت ترسل له باقات التهاني عبر الاذاعات الفلسطينية، وتستدرك: " كنا نرفع معنويات بعضنا خاصة أنني سجنت لمدة عشر سنوات ولي تجربة مع الأسر، بعد أن اعتقلها الاحتلال عام 1987 وأفرج عنها عام 1997م ".
حينما خرج الأسير كان بالكاد يتماسك أمام الحضور في المواقف المؤلمة، ويكبح مشاعره بالصبر، لكنه بينه وبين نفسه كان يجهش بالبكاء فقط ليبدو قوياً أمام أحبائه.
كان البرغوثي يسهر ويتعب مقابل راحة الآخرين، تتذكر نافع أنه عندما خرج نائل من السجن وهو يذهب لحراثة الأرض، كان يرفض أن يساعده أحد رغم أنه يشعر بالتعب، يحب الأطفال وينزل إلى مستواهم، تقول عنه: " كان يلاعب الأطفال كأنه طفل، لديه شخصية المقاوم القائد الذي تحمل، لكن في داخله طفل صغير ".
تختم: " أتمنى من العالم أن يقفوا بجانب قضيته، ولا ينتظروا اللحظة القادمة التي لا نعلم إن كان لزوجي عمر فيها أم لا بحكم الزمن، فكل لحظة تمضي ولا تعود ".