ترك مقعده الدراسي فارغًا؛ كونه لم يستطع إكمال تعليمه بسبب صعوبة الوضع المعيشي داخل أسرته، ولكنه قرر أن يصنع لنفسه اسمًا لإيمانه بأن من رحم المعاناة يولد الإبداع والأمل، فتمكن من أن ينير طريقه رغم الدمار والخراب والحروب، مستخرجاً كل ما بداخله ليجاهد من أجل حياة أفضل، عبر جمع القطع القديمة التي يتخلص منها الجميع ليحييها من جديد، ليكون لأعماله بصمة خاصة تحمل في تفاصيلها الدقيقة بالصنع فكرة وإحساسا، ليسلك طريق الموهبة.
طفولة محرومة
الفنان السوري متعب سليمان من مدينة النبك، (37 عامًا)، اتخذ من الخردة مادة لأعماله الفنية، ليحولها بأنامله التي أصابتها الخشونة والتقشف لتكون مقتنيات وتحفا نادرة لمحبي الأنتيكة.
منذ صغره اهتم بهوايته في الرسم والتشكيل والنحت على الخشب، ونظرًا للظروف المادية تخلى عن تعليمه، ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة البحث والتعلم في موهبته، فتعلم أحدث تقنيات وبرامج الحاسوب التي لها علاقة بالرسم، واتقن مجال التصميم الثلاثي الأبعاد وتعديل الصور؛ كان يُحور كل شيء يقع بين يديه، فأعواد الأيس كريم كان يصنع منها أكواخًا صغيرة، ومن القطع الخشبية ينحت منها خناجر.
بمعنى آخر كانت الريشة والورقة البيضاء الهواء الذي يتنفسه ليبقيه على قيد الحياة، كان يرسم الشخصيات والوحوش المفترسة بطريقةٍ بارعة، وشارك في مرحلة طفولته في مسابقات محلية على مستوى المحافظات.
وكان تشجيع أهله المستمر ودعمهم له بمثابة الأسس التي رسموا له طريق موهبته، كما أن حياة البساطة هيَّأت له حب الرسم والاتجاه نحو هوايته، ولكن فيما بعد سوء الأوضاع الأمنية والحرب والحصار والظروف التي تبعتها من انعدام فرص العمل أجبرته على ترك سوريا والنزوح إلى لبنان برفقة عائلته، ليبدأ هناك رحلة البحث عن العمل، فاضطر للعمل في تركيب السيراميك والبلاط، ورخام مطابخ "المجلى".
يقول سليمان: "في ساعات النهار كنت ألتزم بمهنتي، وبعد عودتي للبيت ليلًا أستثمر بعض الوقت لممارسة هوايتي".
وأضاف: "اضطررت أن أحرف بوصلتي قليلًا لأتمكن من تطوير هوايتي من خلال متابعتي لفيديوهات على موقع اليوتيوب لتعلم المزيد، وإضافة أفكار جديدة وخاصة، وقدرًا تعرفت على فن المصغرات من خلال موقع الفيس بوك وصفحات تعنى بالفن".
فن المصغرات
ميله لحب التجربة أهله لخوض غمار هذا الفن، مشيراً إلى أنه في كل ورشة عمل يتم إتلاف الكثير من المواد الخام والأدوات، فكانت بالنسبة له ذات قيمة، وكان دائمًا يفكر في كيفية الاستفادة منها ومدى إمكانية تشكيلها وتدويرها لصناعة قطع فنية.
كانت أول قطع من صنع أنامله أنبوبة غاز، بعد انتهاء صنعها نشرها عبر صفحته الشخصية على الفيس بوك وانهالت عليه ردود أفعال إيجابية، تشجعه على الاستمرار.
وأوضح سليمان أنه أصبح مواظبًا على أسواق الخردة، ليشتري ما يُتلفه الآخرون، ولا يبحثون عنه بأسعار قليلة، كساعات قديمة، وقطع كهربائية معطلة، واكسسواراتٍ تالفة والملاعق والشوك ليعيد تفكيكها ويستخلص منها الخامات التي يريدها، بحريةٍ كبيرة يختار الخامات فأحيانًا يلجأ إلى الطبيعة كشجر البلوط، أو علب الكولا ليستخلص منها المعدن، فهناك خامات كثيرة، ولكن المهم أن يعرف كيف يوظفها باختيار الأنسب، وهذا لا يأتي إلا من خلال التجربة.
كما أنه يختار أفكاره من الواقع، فالعمل الثاني له الذي صنع منه مصغرًا كان لعبة لابنه المفضلة "السكوتر" وبعدها أيقن أن هذا النوع من الفن هو ما يبحث عنه.
عشق التفاصيل الصغيرة والدقيقة، دفعه لاحتراف المصغرات من خلال خردة أعادها للحياة لتصبح تحفًا فنية، كما أعاد الحياة لتفاصيل دفنت، كالرحى، والمهباش والبابور، كما أنه يختار تفاصيل يحبها كعدة القهوة التي تذكره بوالده وأجواء العيد؛ كما حملت أعماله مصغرات للمدفأة المنتشرة في البيوت السورية، وفنجان القهوة وكل ما يحيطه من تفاصيلٍ في حياته الدقيقة لِيُحيي بها حكاية غربته.
وبعد أن استطاع إعادة الحياة لقطعٍ غير قابلة للاستعمال وتحويلها إلى تحف فنية، مستوحياً ذلك من الحياة السورية.
ومن أجمل ما صنعته أنامله تلك الدراجة الهوائية التي صنعها بكل شغف وعشق، واعتبرها أجمل مصنوعاته.
وأكمل سليمان حديثه: "في طفولتي تذوقت طعم الحرمان كوني عشتُ في عائلة بسيطة وفقيرة، وكنت قد طلبت من والدي أن يشتري لي دراجة هوائية، فرافقتني هذه الرغبة وأنا أصنع الدراجة، وشعرت حينها باستمتاعٍ كبير، وكأنني تمكنت من تحقيق ما كنت أنتظره منذ زمن".
ولفت إلى أن فن صناعة المصغرات يحتاج إلى بال طويل ودقة وصبر، وبمجرد عثوره على الفكرة، تباغته رغبة ملحة في تنفيذها فورًا حتى يتمكن من الذهاب إلى عمله مرتاح البال، فيجد متعة كبيرة في تجميع الأفكار وتطبيقها.
ففي بيته المستأجر خصص غرفة كورشة لأعماله تحوي عدته والأدوات اللازمة، وتمكن في الفترة الأخيرة أن يجني فائدة مادية، بعد الإعجاب الذي انهال عليه من خلال صفحته الشخصية على الفيسبوك، أصبحت تصله طلبات للتواصل والشراء لاقتناء تحف فنية.
ويقول إن كل قطعة لها طريقتها الخاصة بالصنع، نظرًا لأنها تختلف عن أخرياتها من ناحية المادة المستخدمة والتفاصيل، فبعض القطع تحتاج إلى 15 يوما من العمل، وأخرى يوم أو يومين، فخلال وجوده في الورشة ينسى نفسه ولا يشعر بمرور الوقت ولا حاجة جسده للطعام والشراب.
ولكن هذا لا يعني خلو مشواره من العقبات التي أبسطها عدم وجود عدة متطورة تسهل عمله، فلا يمتلك سوى أدوات وامكانيات بسيطة، ويطمح سليمان أن يعمل في معهد لتدريس أنواع الفنون، ويستطيع أن يقربها لقلوب الناس، وأن يجد وسيلة سهلة تساعد أصحاب الاحتياجات الخاصة في ممارسة هواياتهم.