فلسطين أون لاين

عن قرار محكمة الاحتلال.. شهداؤنا ليسوا أرقامًا!

سلطات الاحتلال الإسرائيلي كعادتها تشعرنا بأنها الدولة ذات المصداقية وتتعامل معنا بحسن النوايا وكأنها صاحبة حق وليست مدانة على ما قامت به في السابق وما زالت لم تقصر في ارتكاب الجرائم بحق الشعب الفلسطيني.

فقتلت من قتلت ولم ترحم أحدًا من الأطفال والشباب والنساء وكبار السن، واحتجزت جثثهم فيما يسمى "بمقابر الأرقام"، حتى الشهداء تعمل سلطات الاحتلال على احتجازهم عندها إلى سنين بل عقود طويلة، التي هي أشبه ما يمكن وصفها بمعتقلاتها التي تأسر فيها أسرانا، فهذا التشبيه هو الذي ينطبق بالفعل على حالة احتجاز دولة الاحتلال لرفات الشهداء، التي تتعمد جعل كل ما يتعلق بنا هو عبارة عن سجن، سجن معد للشهداء، وسجن معد للأسرى وسجن محكم على الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع.

بل إن سلطات الاحتلال تشن علينا حروبا بأشكال مختلفة، فحروبها العسكرية والسياسية والاقتصادية باتت معروفة لدينا وتعودنا عليها، لأنها تمارسها ضدنا جهارًا نهارًا، لكن الشيء الذي لم نتعود عليه هو حربها النفسية، التي تعد أشد من حروبها الأخرى سابقة الذكر، حين تحتجز جاثمين شهدائنا لعقود وسنوات طويلة، ودون معاد وإنذار مسبق تفاجئنا بأسماء الشهداء حسب رقمه المسجل على قبره، لتسلمنا رفاتهم ومنهم من كان مجهول الهوية ولا يعرف أحد عن مصيره ولم تفِد سلطات الاحتلال أهله باستشهاده وأن رفات جثته محتجز لديها أو مدفون في "مقابر الأرقام".

وفي هذه الحالة تكون سلطات الاحتلال قد قتلت الشهيد وأهله وذويه مرات عديدة على مدار سنوات الاحتجاز، كما هي قصة اختفاء رفات الشهيدة دلال المغربي، فقد نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية بتاريخ 16 من يوليو/ تموز عام 2008، تقريرًا زعمت فيه أن رفات الشهيدة المغربي قائدة عملية الشهيد "كمال عدوان" الفدائية التي نفذت عام 1978 قرب مدينة حيفا في الداخل المحتل، قد اختفى من القبر الجماعي الذي دفنت فيه مع أفراد مجموعتها الاستشهادية في مقبرة الأرقام.

وكانت الصحيفة نشرت في عنوان صفحتها الأولى "الجثة التي اختفت"، ونقلت عن مصدر أمني إسرائيلي ادعاءه "أن الوحدات الإسرائيلية المسؤولة عن نبش القبور لم تعثر على جثمان دلال المغربي خلال عملية نقل رفات الشهداء من مقابر الأرقام" في إطار عملية التبادل مع حزب الله. وأشارت الصحيفة إلى أن الأطباء أكدوا "أن جميع الجثامين التي تم نقلها من داخل القبر الجماعي الذي دفنت فيه دلال مع أفراد مجموعتها، كانت جثثًا لرجال".

مصدر إسرائيلي كبير في الحاخامية العسكرية علق على هذه الحادثة قائلًا: "إحدى المشكلات هي أنه في المقبرة لضحايا العدو لا توجد بنية تحتية من الإسمنت مثلما في المقابر المدنية والعسكرية، فلا أسماء ولا هوية ولا شواهد ولا استقرار ولا من يبحث عن الشهداء سوى النمس الجريء الذي يتخطى الأسلاك المكهربة وحظر منع الدخول، فحيوان النمس أشرس الحيوانات التي تدخل إلى مقابر الأرقام، ويقوم بالحفر ثم يستخرج الجثة يمزقها ويأكلها وينعفها في المكان.

وهذا ليس بغريب، فبحسب تقرير نشره موقع الجزيرة فإن عددًا من الأسرى المرضى يشتكون من قيام عيادة السجن بإجراء تجارب طبية ودوائية عليهم واتهموا ما تسمى بإدارة السجون بإجراء تجارب طبية عليهم ومعاملتهم كالفئران من خلال الحقن وبعض الأدوية التي تؤدي لتدهور أوضاعهم الصحية.

سلطات الاحتلال تجعل من حجز الرفات عبرة لنا بأن هذا هو حال ومصير كل من يحاول القيام بعمليات استشهادية ضد الإسرائيليين، لكن كما قالت أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما): "فلا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها". لكن السؤال الذي أصبحت إجابته واضحة وضوح الشمس في وضح النهار هو: ماذا تستفيد سلطات الاحتلال الإسرائيلي من احتجاز جاثمين الشهداء الفلسطينيين؟ لعلنا نذكر الضجة الإعلامية التي أثارها الصحفي السويدي باستروم ليزيح، حين كشف اللثام عن حقيقة سرقة سلطات الاحتلال الإسرائيلي أعضاء الشهداء الفلسطينيين من أجسادهم، وتأكيدًا على ذلك أهالي الشهداء الذين اكتشفوا آثار عبث بجثث أبنائهم الشهداء بعد استلامها من قبل سلطات الاحتلال. وهذا يؤكد ما تم تسريبه للإعلام الإسرائيلي لتصريحات عن كل من مدير معهد الطب العدلي ومدير معهد "أبو كبير"، بأن كل جثة وصلت إلى المعهد كانت تنتزع من ظهر صاحبها، دون موافقة مسبقة من عائلة المتوفى، حيث تم انتزاع رقع جلدية من جثث فلسطينيين لصالح جنود الاحتلال الذين تعرضوا لإصابات أو حروق، إضافة إلى نزع قرنيات من عيون الجثث وأعضاء داخلية.

هذه هي أخلاقيات دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تدعي حسن النوايا، بل هي سوء النوايا، للمقايضة والمناورة من جديد للعبة السياسة القادمة التي سيكون المفاوض الفلسطيني أداتها للنزول عن الشجرة والحجل على المصالحة لإفشالها كما فشلت مرات عديدة، وإشغالنا بقضية الحصول حتى على باقي رفات الشهداء المحتجزين في "مقابر الأرقام" الذين يقدر عددهم بأكثر من 317 جثة، من خلال المقايضة وتقديم التنازلات السياسية تحت شعار المفاوضات السلمية التي لم نحصد منها إلا خيبات الأمل ولا نحصل على أي من قضايانا، وإلا لماذا الآن بالذات أعلنت دولة الاحتلال عن حسن نواياها بتسليم رفات جثث الشهداء؟!

لعل هذا القرار وهذا الإجراء المشين كشف حقيقة قضاء الاحتلال الإسرائيلي بأنه إحدى أذرع سلطات الاحتلال المناهضة لشعبنا وحقوقه الوطنية والإنسانية، والقول إنه محايد هو أكذوبة هدفها التضليل والخداع، فهذا القضاء خاضع لتعليمات المستويين السياسي والعسكري في دولة الاحتلال. فقرار المحكمة العليا للاحتلال هو قرار جائر وخاضع لقراري الجيش والمستوى السياسي خاصة وأن بعض القادة الذين أصدروا القرار أمس، كانوا قد صوتوا في جلسة سابقة ضد احتجاز جثامين الشهداء إلا أنهم غيروا رأيهم في جلسة أمس الأمر الذي يؤكد أن قرارات المحكمة العليا هي قرارات خاضعة للمستويين السياسي والعسكري، وتأتمر بأوامرهما، وليست محايدة. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذا القرار الاحتلالي مخالف لكل القوانين والمواثيق والأعراف الدولية، كما أنه مخالف للشرع السماوية، وخاصة الشريعة الإسلامية، حيث إن إكرام الميت هو دفنه وليس احتجازه في ثلاجات الموتى لعدة سنوات، حيث هناك جثامين شهداء لا تزال موجودة منذ سنوات في ثلاجات معهد الطب الشرعي الإسرائيلي في أبو كبير.

لذا لا بد أن نكون أكثر يقظة بعدم تحويل قضية أسرانا والإصرار على تنفيذ مطالبهم العادلة حسب ما تم الاتفاق عليه مع الاحتلال الذي أخذ باختراق الاتفاقية ولم يلتزم بتنفيذ بنودها، وهذا الشيء يجري في دمه، إلى قضية جديدة اسمها الرفات، لابتزاز ما يمكن ابتزازه. نحن لا نقلل من أهمية عودة جثامين ورفات الشهداء إلى أهلهم وذويهم ليدفنوا بجوارهم، بل نحن مع إرجاء أي ذرة رمل من تراب فلسطين، لكن المهم في الأمر الأحياء الباقون السائرون على درب الشهداء. وهنا لا بد ألَّا نهمل حقنا وحق شهدائنا الذين تركوه في أعناقنا نحن الأحياء، ببذل الجهود على المستوى الرسمي وغير الرسمي لمقايضة سلطات الاحتلال الإسرائيلي في كل المحافل الدولية ومنظمات حقوق الإنسان على احتجازها لجثامين شهدائنا، وكشف حقيقة ما تقوم به سلطات الاحتلال وجمع الأدلة الدامغة التي تؤكد قيامها بسرقة أعضاء من جثث شهدائنا ونقلها إلى مرضى يهود، أو بيعها في الخارج، وفضح هذه الدولة المارقة على القانون الدولي التي تفعل ما تشاء دون محاسب أو مراقب.