شكلت مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار حالة نضالية فريدة في تاريخ ثورة شعبنا المعاصرة ضد الاحتلال الصهيوني، وأثبت فيها شعبنا الفلسطيني القدرة الدائمة على الإبداع والابتكار في وسائل المقاومة، والإصرار على تحقيق الأهداف والمطالب، إلى جانب روح تضحية وفداء عز نظيرها، وذلك كله مقومات النصر الأكيد.
فمسيرات العودة، وبقدر ما كانت امتدادا طبيعيا للنضال المستمر الذي يخوضه شعبنا ومقاومته، إلا أنها مثلت شكلاً إبداعياً، بالمشاركة الجماهيرية الواسعة من كل أطياف الشعب الفلسطيني بمئات الآلاف وبطريقة جماهيرية سلمية، لينحت شعبنا طريقاً جديدة، ووسيلة فريدة، وألا يستسلم لمعطيات الواقع المتمثلة بالاختيار بين المواجهة العسكرية أو الهدوء الكامل.
ولعل أكثر ما يدلل على حجم الإنجاز الوطني، هي تذكر البيئة التي انطلقت منها هذه المسيرات، فقد كانت الهجمة على مكونات القضية الفلسطينية على أشدها، فالإدارة الأمريكية كانت تتخذ سلسلة من القرارات التي تهدف إلى تصفية القضية، بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، ونقل سفارتها إلى القدس المحتلة، والتضييق الشديد على عمل الأونروا للإجهاز على قضية اللاجئين، وكان الحصار الإسرائيلي قد تعمق بشكل كبير على قطاع غزة، وتعثر مسار المصالحة بفعل المواقف الرافضة للشراكة من قيادة حركة فتح في رام الله ومنعها لأي حالة نضالية من الانطلاق من الضفة الغربية، وانشغال الإقليم بمشاكله الداخلية، وسعي بعض مكوناته للتطبيع مع الاحتلال، فجاءت هذه المسيرات رفضا لكل هذا الواقع، وبعثرت أوراق المتربصين بالقضية الفلسطينية، وعطلت كل المناخات التي كانت تتحضر لتمرير مشاريع تصفوية للقضية الفلسطينية.
فالمسيرات أعادت التأكيد وبكل قوة على حقوق شعبنا الثابتة، وأذكت حق العودة، وزادت ترسيخه في الوعي الجمعي الفلسطيني، ولم يعد بمقدور أي طرف فلسطيني أن يتعاطى مع مشروع ينتقص من حقوق شعبنا، وشكلت قوة مقاومة متصاعدة لصفقة القرن أربكت حسابات الفريق القائم على إعداد خطتها، ووضعت بعض الجهات الإقليمية التي كانت تنوي التعامل معها في حرج شديد؛ ما دفعهم إلى مراجعة مواقفهم، ونحن على ثقة أن استمرار هذه المسيرات هي التي ستقبر هذه الصفقة إلى الأبد، وستعيد الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني داخلياً وخارجياً، وستضمن هذه المسيرات استمرار تمركز قضية فلسطين في صميم الضمير الجمعي للأمة، كما ساهمت المسيرات في زيادة عزلة الاحتلال ومقاطعته بعد الجرائم التي شاهدها العالم في بث حي ومباشر ضد المتظاهرين السلميين على حدود قطاع غزة.
رسمت هذه المسيرات لوحة فريدة من الوحدة الوطنية على الصعيد الميداني وعلى مستوى متقدم سياسياً، فبعد تعثر كل الجهود لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني بما يشمل الكل الوطني بسبب الموقف المتعنت للرئيس عباس، جاءت هذه المسيرات لتؤكد مرة أخرى أن الفعل الميداني المقاوم هو الصيغة القادرة على جمع الكل الفلسطيني في مسار وطني حقيقي، ومثلت الهيئة العليا واحدة من صيغ العمل الوطني الجماعي المتقدم، التي مهدت الأرضية لتشكيل غرفة العمليات المشتركة التي أدارت عملية الردود العسكرية على العدوان الصهيوني، الذي يعد تشكيلها سابقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية العسكرية الميدانية.
وضعت مسيرات العودة موضوع حق شعبنا في العيش الكريم وكسر الحصار الظالم عن قطاع غزة، كواحدة من المطالب الوطنية المجمع عليها، وأصبحت الأطراف المختلفة، وفي مقدمتها العدو الصهيوني، على قناعة تامة بأن استمرار الحصار لن يحقق لها أيا من أهدافها، فالمقاومة وقدراتها في تصاعد، وحاضنتها الشعبية في ازدياد، وتمسك الشعب بحقوقه تتعمق، والأهم أن الشعب قرر بشكل حاسم أنه لن يعيش مزيدا من الوقت تحت هذا الحصار الظالم، وتسبب المسيرات بصدوع حقيقية في جدار الحصار، عبر إجبار الاحتلال على بعض الإجراءات، إلا أن ما حدث حتى الآن ليس هو نهاية المسار، فالمطلوب أن يعيش أهلنا في قطاع غزة بحرية وكرامة، وسيستمر في هذه المسيرات حتى الكسر الكامل لهذا الحصار.
ستظل مسيرات العودة واحدة من أعظم وأروع لوحات المقاومة التي رسمها شعبنا الفلسطيني، وستتحول إلى أيقونة نضالية يسجلها التاريخ كفعل إنساني بالغ الرقي ممزوج بقيمة تضحية عظيمة لشعب ثائر منتصر.