ما يحرك الكثير من دول العالم اليوم هو المصالح وليس المبادئ أو القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ومن الواضح أن (إسرائيل) بذلت وتبذل جهودا مكثفة منذ سنوات طويلة لإقناع بعض الدول بلغة ومنطق المصالح والإغراءات للاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال، قرار هندوراس افتتاح بعثة دبلوماسية لها في القدس المحتلة وقرار جمهورية تاورو الصغيرة الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال أثارا ردود فعل تراوحت بين الشجب والاستنكار والتأكيد أن ذلك يتعارض مع القانون الدولي، وبالطبع فإن مثل هذه البيانات لن تردع متخذي مثل هذه القرارات للتراجع عن قراراتهم، والسؤال المهم الذي يجب طرحه بهذا الشأن هو: كيف استطاعت (إسرائيل) دفع مثل هذه الدول الصغيرة للاستعجال بالاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال رغم سلسلة القرارات الدولية الخاصة بالقدس؟ وما الذي فعلناه أو يمكن أن نفعله فلسطينيا وعربيا وإسلاميا حتى لا تعترف مزيد من الدول المماثلة بالقدس عاصمة للاحتلال؟
أولا: أن فريق نتنياهو هو الذي يخطط ويقرر بخلاف كل التصريحات الأميركية الرسمية، وجزء من أهدافه كسب التأييد الداخلي، في معركته مع القضاء، ثم يمكن توقع أنّه نسّق الخطوات اللاحقة مع أصدقائه الذين لا يقلون صهيونية عنه؛ ديفيد فريدمان، السفير الأميركي في (إسرائيل)، وأديلسون الذي يدعم نتنياهو شخصيًا، حتى ضد قيادات اليهود الأميركيين التقليديين والكبار، وصاحب الكلمة المسموعة عند ترامب بحكم تبرعاته السخية، وبحكم مصالح مشتركة ضخمة مع ترامب، ومع صهره الصهيوني جارد كوشنير. فريق نتنياهو المصغر يضم فريدمان وأديلسون، وعلى كوشنير وبينس وهيللي اتخاذ القرار وتسويقه عند ترامب. وتسريع نقل السفارة يساعد نتنياهو على البقاء بمنصبه، أديلسون أشبه براعٍ شخصي له.
إنّ هذا الاستعجال بنقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس في حد ذاته تحدٍّ للأمتين العربية والإسلامية وأيضا للعالم المسيحي لأن هذا الإجراء لا يتوقف عند نقل السفارة للقدس والاعتراف بها عاصمة للاحتلال فقط، بل من شأنه التعجيل في تهويد المدينة للسعي سلطات الاحتلال الحثيث بإزالة كل ما يتعلق بالعرب فيها مسلمين ومسيحيين بشرًا وحجرًا، فقد لا يغير موعد نقل السفارة كثيرًا من المعنى السياسي لقرار الولايات المتحدة الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيلية، آلية تنفيذ القرار ذات له معنى مهم بالنسبة لأمريكا والاحتلال.
صحيح يبدو لنا هذا تحديًا واستفزازًا لمشاعرنا، لكنه في نفس الوقت إهانة لوزارة الخارجية الأمريكية التي أصبحت لا مصداقية ولا سلطة لها على السياسة الخارجية الشرق أوسطية، خصوصًا في الشأن الإسرائيلي– الفلسطيني. فمثلا المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة نيك هيلي، لا تبذل أي جهد للتناغم مع الوزارة، وتتحدث دائمًا باسم (إسرائيل) وكأنها منظومتها في الأمم المتحدة.
يبدو أن الإدارة الأمريكية لا تأخذ بالمثل القائل: "في التأني السلامة وفي العجلة الندامة" لأنها -كما قلت- لا تستطيع مخالفة أوامر نتنياهو الذي يسعى لتحقيق مكاسب سياسية وتأمين مستقبله السياسي وزيادة شعبيته الحزبية، ولم يكترث كثيرًا لمسألة المفاوضات السلمية التي لا توجد أي تصريحات تزعم أو تدعي أن الخطوة للتمهيد لإطلاق مبادرة السلام الأميركية، بل تنقل الصحافة الأميركية عن سفراء أميركيين سابقين أنّ عملية السلام أبعد اليوم من أي وقت سبق.
السؤال الذي نطرحه على زعماء الأمتين العربية والإسلامية هو: ألا تملك الدول العربية والإسلامية من المقدِرات والموارد ما تستطيع من خلاله التعامل مع مثل هذه الدول حتى لا تلجأ الى (إسرائيل) لتلبية مصالحها مقابل مواقف سياسية كالاعتراف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل)؟
ثم إذا كانت القضية الفلسطينية وفي مركزها القدس العربية والإسلامية المحتلة هي من أولويات زعماء الدول العربية والإسلامية وما يجري يشكل مساسًا بهوية القدس ومقدساتها التي يفترض أنها تهم العرب والمسلمين، هل يعقل أن تكتفي الدول العربية والإسلامية ببيانات الشجب والاستنكار؟ وأين ذهبت مقررات القمم العربية خاصة القمتين الأخيرتين اللتين حذرتا الدول من نقل سفاراتها للقدس وان الدول العربية ستتخذ اجراءات ضد هذه الدول.. واذا كان نقل السفارات الى القدس يتعارض مع القانون الدولي، وهو كذلك، فلماذا لا تبادر الدول العربية والإسلامية لطلب عقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن لمناقشة هذا العدوان على قرارات الشرعية الدولية.. ألا تستحق القدس ومقدساتها من زعماء الدول العربية والإسلامية الدعوة الى عقد قمة عربية - إسلامية لتوجيه رسائل واضحة لدول العالم من جهة وللاحتلال الإسرائيلي وحليفته أميركا التي تمارس الضغوط على بعض الدول لنقل سفاراتها للقدس؟ أليس هناك تقصير عربي - إسلامي واضح في مواجهة المخططات التي يجري تنفيذها لتهويد القدس من جهة ولتصفية القضية الفلسطينية من الجهة الأخرى؟؟!
وفلسطينيا نقول: إن إنقاذ القدس والأقصى والقضية وإحباط محاولات الاحتلال لدفع مزيد من الدول لنقل سفاراتها للمدينة المقدسة لا يمكن أن تتحقق ببيانات الشجب والإدانة والاستنكار ولا بانتظار أن يتدخل هذا الطرف أو ذاك، فنحن أصحاب القضية بالدرجة الأولى ودون وحدة فلسطينية حقيقية وصوت فلسطيني واحد وجهد فلسطيني واحد وإستراتيجية فلسطينية واحدة لمواجهة كافة التحديات فلا يمكن ان يستمع احد لبيانات الشجب والإدانة.