عمدت الحركة الصهيونية محاولة إسكات كل صوت منتقد لجرائمها تجاه الشعب الفلسطيني إلى رميه بتهمة "معاداة السامية".
وقد ابتدعت الصهيونية هذه التهمة، وبدأت توظفها لتحقيق مصالحها، بعدما اتخذت القيادات الصهيونية هذا المفهوم ذريعة لفصل الجماعات اليهودية في أوروبا عن المجتمعات المسيحية التي كانت تعيش بينها، وطورت على أساسها الفكرة القومية الموجهة لإنشاء ما يسمى الوطن القومي لليهود بأرض فلسطين.
المشكلة أن (إسرائيل) وأنصارها يريدون أن يجعلوا أي نقد لها ولسياساتها، أو أي نقد يطال أفعالًا ومواقف لمسؤول من أصول يهودية، فضلًا عن أي محاولة لمساءلة مقولات صهيونية تأسيسية لتسويغ اغتصاب فلسطين، أو شن عدوان على أهلها والعرب، أمورًا كلها مشمولة ضمن تعريف معاداة السامية.
بمعنى أن ثمة مسعى واضح المعالم، لجعل تهمة معاداة السامية سيفًا مسلطًا على رقاب كل من يعارض (إسرائيل) والحركة الصهيونية، وبذلك خنق أي نقاش موضوعي بشأن (إسرائيل) وسياساتها وأفعالها كيانًا غاصبًا، ونشاط أنصارها في كل دول العالم.
لقد أشهرت (إسرائيل) سلاح ما أصبح يصطلح عليه بتهمة "معاداة السامية" عندما ضاقت ذرعًا بالسلاح الفتاك الذي وظفه أنصار وأصدقاء الشعب الفلسطيني، بتنامي وتصاعد وتيرة حركة المقاطعة، إذ أضحت هذه الأخيرة السلاح السلمي الأقوى والأكثر فعالية لإنهاء الاحتلال.
وبناء عليه لم تحرك تهمة معاداة السامية أول مرة في حق الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة، وتحجب إدارة مارك صفحتها على (فيس بوك)، بل استعمل اللوبي الصهيوني هذا السلاح في حق العديد من الهيئات والشخصيات السياسية في كل دول العالم، بمجرد انتقادهم سياساتها التوسعية وممارساتها غير الإنسانية في حق العرب والشعب الفلسطيني.
هكذا واجهت عدة شخصيات فكرية وسياسية وأكاديمية وفنية في أوروبا والولايات المتحدة والوطن العربي مضايقات ومحاكمات وحملات شرسة، بسبب انتقاداتها للسياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ومناهضتها الصهيونية، ودعمها القضية الفلسطينية.
فهذا المفكر الفيلسوف الفرنسي روجي غارودي لما ناصر قضايا عربية وإسلامية كقضية فلسطين، وواجه الصهيونية بشراسة، خاصة بعد مجزرة صابرا وشاتيلا في لبنان عام 1982م؛ شنّ عليه الإعلام الموالي لـ(إسرائيل) والصهيونية حملة شعواء، وصوّره على أنه عنصريّ ومعادٍ للسامية، وقاطعته صحف بلاده، لكنه لم يتراجع عن مواقفه، وفي مرحلة مهمة من تاريخ الرجل أصدر كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" عام 1995م.
وشكك في الرواية الصهيونية للهولوكوست، فحكمت عليه محكمة فرنسية عام 1998م بالسجن سنة مع وقف التنفيذ، وغرّمته 120 ألف فرنك فرنسي (خمسين ألف دولار)، متهمة إياه بالعنصرية، وإنكار جرائم ضد الإنسانية، وقال غارودي في هذا الصدد: "اليهودية ديانة أحترمها، أما الصهيونية فهي سياسية أحاربها".
ومن عالم الفكر والفلسفة إلى عالم الفن والثقافة اتهم منتج الأفلام الأمريكية غيبسون بمعاداة السامية، خاصة بعد فيلم "آلام المسيح" المنتج عام 2004م، الذي أدانته جماعات يهودية، متهمة إياه أنه يسهم في إذكاء المشاعر المعادية للسامية، نتيجة لوم اليهود على "مقتل" السيد المسيح (عليه السلام)، بحسب رواية الفيلم، وتحت جميع التحفظات، وأدلى الممثل الأميركي بتصريحات قال فيها: "إن الصهيونية مسؤولة عن كل حروب العالم".
وذكرت تقارير أن اليهود فرضوا حصارًا على الممثل، وتأثرت أعماله -وهو الحائز الأوسكار- كثيرًا بعد إخراجه الفيلم، ولم يتلق سنوات عروضًا كثيرة من الشركات الصانعة للأفلام، بعد أن كانت تعرض عليه عشرة أفلام سنويًّا.
الفاعل السياسي أيضًا لم يسلم من تهمة "معاداة السامية"؛ فبمجرد انتقاد عضوي الكونجرس الأمريكي: إلهان عمر الصومالية الجذور، ورشيدة طليب ذات الأصل الفلسطيني، الدعم الأمريكي لكيان الاحتلال الإسرائيلي، وإشارتهما إلى وقوف مؤسسات ضغط (لوبيات) وراءه، خصوصًا لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية؛ وجهت لهما تهمة "معاداة السامية"، وشنت عليهما حملة إعلامية شرسة استهدفت شخصهما، وعملت على شيطنتهما وحصرهما في الزاوية.
ترى هل باسم محاربة "معاداة السامية" يحرم على كل شخصية أو هيئة حقوقية أو سياسية توجيه النقد للكيان الصهيوني، الذي ارتكب خلال صيف 2014م فقط مدة 50 يومًا في حربه على قطاع غزة جرائم بشعة، أدت إلى استشهاد 2139 فلسطينيًّا، منهم 556 طفلًا و293 سيدة، وجرح 11128 فلسطينيًّا، وتدمير 31.974 منزلًا سكنيًّا، منها 8163 عمارة سكنية متعددة الطبقات، وتدمير البنى التحتية المدنية للقطاع المحاصر، وتهجير 520 ألف فلسطيني داخل القطاع؛ أي ما يعادل 34% من مجموع سكان قطاع غزة؟!
هل معاداة للسامية الحديث عن جرائم الكيان الصهيوني سنة 1948م الذي دمر نحو 531 قرية ومدينة فلسطينية، وارتكب أكثر من 70 مجزرة ومذبحة، ذهب ضحيتها أكثر من خمسة عشر ألف فلسطيني، وهجر قسرًا قرابة من 800 ألف مواطن، من أصل 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في الأراضي المحتلة؟!
هل الحديث عن مجزرة خان يونس، ومذبحة الحرم الإبراهيمي، ومجازر جنين والشجاعية وصبرا وشاتيلا بمنزلة معاداة للسامية؟!
ألا تتعارض حمولة من يتهم بمعاداة السامية والحقوق في الرأي والتعبير والتفكير التي تعد من أقدس الحقوق وآكدها، إذ حظيت باهتمام بالغ في العهود والمواثيق الدولية وكذا الدساتير الوطنية لجل الدول الأممية، لكونها مرتبطة بالحقوق المدنية والسياسية الأساسية للإنسان، كيفما كان انتماؤه، وبغض النظر عن طبيعة الأفكار التي يريد التعبير عنها شريطة احترام القوانين الجاري بها العمل؟!
المركز الفلسطيني للإعلام