بدمائهم التي روت الأرض وتلألأت أسماؤهم كتبوا حكاية مُغلّفة بالتضحية، ثلاثة أقمار من شهداء "الواجب الوطني" رحلوا مخلدين تلك التضحيات، التي لن ينساها التاريخ ولا أبناء شعبهم فكانت عيونهم ساهرة على حمايتهم تاركين أطفالهم وعائلاتهم حتى دفعوا من دمائهم وأرواحهم ثمنا لعملهم وواجبهم في خدمة أبناء شعبهم وحمايتهم من مكر العابثين.
حزينة .. أمست غزة كما استيقظت على وقع حادث أليم بعد انفجارين استهدفا حاجزين للشرطة أول من أمس أسفرا عن استشهاد ثلاثة من رجال الشرطة وهم: سلامة النديم وعلاء الغرابلي ووائل خليفة، نتحدث عن ثلاث تضحيات وقصص حية لا تموت.
الشرطي "خليفة" ظل على رأس عمله حتى الاستشهاد
"ليش بابا ما إجاش .. ياخدني على الروضة".. يسأل "زين" نجل شهيد الواجب الوطني وائل موسى خليفة (45 عاما)، بعدما استيقظ من نومه، وهو ينتظر والده ليصطحبه إلى روضته سعيدا بحقيبته وبملابسه الجديدة، ليجد أمامه عشرات من النساء يبكين، وسيارة إسعاف تحضر شخصا يلفه الكفن الأبيض، لم يعلم أنه والده الذي ينتظره.
"كيف سنجيبه؟".. تقف ولاء (23 عاما) ابنة أخ الشهيد خليفة (45 عاما) بعدما سمعت سؤال "زين" خمسة أعوام؛ مسحت دموعها: "ماذا سنقول له؟ من سيجيبه؟ بأن شخصا "خائنا" فجر نفسه بوالده الشرطي الذي ترك أولاده وزوجته وهو يسهر لحماية الناس".
صمتت بعد أن مسحت قطرة أخرى هربت إلى خدها، وقالت مشيرة بيدها نحو الابن الأصغر للشهيد ويدعى "محمد" والذي احتفل والده الأسبوع الماضي بإتمامه العام: "ما ذنبه يحرم من والده ويتربى يتيما".
لم تجد زوجته سوى الدموع لتخفف عنها، وكأنها أصبحت ضيفها الدائم وملاذها حين تجوبُ الذكرياتُ وجدانها، بدت صامتة شاردة، تنساب الدموع من عينيها كنهر مندفع يسكب أحزانه، لتواسي صدمتها بهذه القطرات، وهي تحتضن طفلها الرضيع محمد وتضمه بين ذراعيها، كلما حاولت الحديث قاطعتها الدموع، فظلت صامتة .. وما أصعب لغة العيون حينما تروي حكاية الفراق.
عهد السنين
وائل شرطي يعمل منذ عهد السلطة الفلسطينية، ظل على رأس عمله وعمل بوزارة الداخلية بغزة حتى استشهد، وهو على رأس عمله كذلك ساهرا على إحدى نقاط الشرطة الساحلية.
تربى يتيما بعد أن توفي والده ولعل "اليتم" هو القاسم المشترك بين هذه العائلة الصغيرة، فزوجته كذلك تربت يتيمة بعد وفاة والدها بطفولتها كحال زوجها، ويتكرر المشهد مرة أخرى الآن.
"مين بده يجي عنا، كيف بدنا نقعد بدونه" .. تعيش ولاء "الصدمة" التي رأيتها في وجوه كافة النسوة في بيت عائلة الشهيد المسقوف من ألواح "الأسبست" بين أزقة مخيم البريج وسط قطاع غزة.
شمعة وحيدة
تقلب ولاء بهاتفها المحمول صورة لعمها وهو يحتفل بإتمام ابنه محمد عامه الأول، في الصورة يجلس محمد على الطاولة وأمامه قالب جاتوه مكتوب عليه رقم "1" وشمعة وحيدة، ومن حوله أفراد الأسرة، صورة دغدغت مشاعرها مرة أخرى وأبرقت عينيها بالدموع، قائلة: "أنظر؛ كان عمي سعيدا باحتفال يوم الميلاد (..) كان متعلقا بأبنائه بشكل غير عادي حتى أن البعض انتقد شدة تعلقه بهم ولم نكن نعرف أنه سيرحل عنهم وأكبرهم لم يتجاوز خمسة أعوام".
تعثر على صورة أخرى لرحلة عائلية سنوية ينظمها عمها كل سنة وكانت آخرها قبل أسبوعين، تتساءل بحرقة: "من سيجمعنا؟"، وتنتقل لصورة أخرى لعمها مع ابنه زين بعيد الأضحى، وصورة لزين مع والده في أول يوم روضة حينها كتبت زوجته على صفحتها على فيس بوك: "لقد بدأ المشوار .."، وهي لا تعلم أن هذا المشوار ستكمله وحيدة بلا زوجها.
لا يزال زين وشقيقه آدم "عامان" يجهلان ما الذي يجري هنا، ينشغل كل منهما بشرب زجاجة عصير بلاستيكية، ما أن تتحدث مع زين يخبرك أنه ينتظر عودة والده، حتى صدر ذلك الصوت أخيرا بعد طول صمت "وائل .. حيرجع" وكان لزوجته، التي ما زالت تعيش الصدمة، سيمر الشهر القادم تحديدا في 23 سبتمبر/ أيلول القادم وهو يوم ميلاد آدم وكذلك ولاء، سيكون هذا الموعد ذكرى لتجدد الأحزان.
بدموع الفراق "الغرابلي" تودع فلذة كبدها الثالث
بلحظة يمكن أن يتغير كل شيء! .. نتمنى لو نستطيع إرجاع الزمن للخلف؛ فقاسية تلك اللحظة التي نودع فيها أحبابنا، فكيف لأم تودع ابنها الثالث!؟، راسمة بدموعها تلك؛ فصلا من فصول الوجع والألم والحسرة، التي تنساب من عيونها في كل مرة وكأنها ذرات التراب الأخيرة التي تغسلهم بها.
قبل أن يخرج من البيت لعمله في شرطة المرور يخاطب علاء والدته "أم رفعت": "بدي أطلع يما بدك شيء" فهو بالعادة لا يغادر دون نيل رضاها وكسب دعواتها، في هذا اليوم صارح والدته وبدا سعيدا: "أنا اليوم خلصت سداد آخر دين علي"، ليذهب بعدها إلى عمل قرب "مفرق الدحدوح" جنوبي غربي مدينة غزة.
وما إن مرت ساعتان حتى سمعت والدته بحدوث انفجار، لكنها اعتقدت أنه في أرض خالية، لكن الأنباء بدأت تحدد موقع الانفجار بالقرب من مكان عمل ابنها، حتى بدأت هواجس القلق تجتاح تفكيرها، انشغلت معها كل أحاسيسها وهي تبحث عن ما يبرد نيران قلبها التي أضرمها الخوف، فحاولت الاتصال على نجلها "علاء" مرارا وتكرارا فلم يرد على الاتصال، فكانت روحه صعدت إلى السماء، ليأتيها بعد لحظات خبر استشهاد نجلها الثالث.
الصدمة الثالثة
قبل لحظات من وصولنا، كان جثمان ابنها "علاء" أمامها في هذا المكان وعلى نفس الهيأة ودعت قبله ابنيها الشهيدين "بهاء" و"عاهد": تقول وبدت هذه الأم متماسكة صابرة لكن عيونها تخفي حزنا عميقا لم تبحه كلماتها: "لما وضعوه أمامي تذكرت علاء الحنون، صاحب القامة الطويلة، والبنية القوية؛ كيف خرج على قدميه وعاد إلي محمولا على الأكتاف تغطي الشظايا وجهه ورأسه".
وما أشبه الأمس باليوم، فأبناؤها الثلاثة استشهدوا وهم يؤدون واجبهم الوطني، غدرا "بلا ذنب!"، فشهيدها الأول الشرطي بهاء (24 عاما) استشهد عام 2008م بقصف طائرات الاحتلال لمقر الشرطة الفلسطينية بمدينة غزة "الجوازات".
تستذكر الأم وحولها النسوة, المعزين برحيل ابنها الثاني: "استشهد عاهد عام 2014م بعدما قصفته طائرة استطلاع أثناء محاولاته اسعاف مجموعة من المقاومين كان برفقتهم، .. اليوم أودع ابني الثالث: هذا طريقهم وقدرهم".
بصوت خافت رددت : "حسبي الله ونعم الوكيل".
"كنت أتوقع كل ساعة خبر استشهاد أحد أبنائي، لكني لم أتوقع أن يكون بهذا الشكل والسرعة".
"وين بابا؟ .. مين اللي قتله؟، احكولي مين عشان أضربه" كانت هذه أسئلة نجل الشهيديوسف (4 أعوام)، أما نجله الأصغر عاهد "عامان" الذي يجلس بحضن جدته ينظر حوله جاهلا بما يدور حوله، لكنه سيتذكر حينما يكبر الصورة التذكارية الأخيرة التي التقطها والده معه ليتذكر هذه الحادثة الأليمة.
روح "سلامة النديم" تجاور ابنه "محمود"
ورأيت الشهداء واقفين .. كل على نجمته، سعداء بما قدموا للموتى الأحياء من أمل ورأيت رأيت رأيت .. بلادًا يلبسها الشهداء ويرتفعون بها أعلى منها .. وحيا وحيا؛ وكأن ما كتبه الشاعر "محمود درويش" هو الأمل الذي زرعه كل شهيد قدم روحه لأجل وطنه فيرتفعون بتلك الأوطان.
صوت يخترق نافذة المنزل يفزع والدة الشاب سلامة ماجد النديم (32 عاما)، بعدما سمعت عن صوت انفجار، مستغربة سبب بكاء أبنائها وزوجاتهم: "شو صاير .. ليش بتبكوا"، بصوت مرتجف صارحها أحدهم: "سلامة استشهد"، كانت هذه الكلمات كصاعقة نزلت على قلبها.
"الله يرضى عليه .. استشهد وهو يؤدي عمله وواجبه" قالتها في مستهل حديثها لنا، وكانت قبل لحظات ودعت جثمان نجلها، ففي كل يوم كان يودعها قبل خروجه إلى عمله، إلا أنه ودعها هذه المرة بشكل مختلف جثة هامدة ممددة أمامها تلقي عليه نظرة الفراق الأخيرة، وكانت تتمنى أن يكون المشهد الأخير بينهما قبلة يطبعها الشهيد كعادته على يدها لينال رضاها.
تجلس على كرسي بلاستيكي أمام عتبات منزلها تحتسب أجرها وتلعن "كل ظالم قام بهذا الفعل .. ما ذنب أطفاله".
لدى سلامة ولدان "زين" سبعة أعوام، ومحمد "عام"، ولين خمسة أعوام، لا تخفي جدتهم هذا التعلق الشديد بوالدهم: "على أحر من الجمر ينتظرون عودته للمنزل، بل يتصلون عليه كل بضع دقائق يسألون عن موعد عودته".
رحل الشهيد "النديم" الذي يعمل بالشرطة منذ عشر سنوات ليجتمع بروح ابنه الرضيع "محمود" الذي توفي بسبب مرض بالقلب، ولهذا المرض قصة تذكرها جدتها ولا زالت متماسكة: "احتاج محمود لإجراء عملية جراحية بالمستشفيات الإسرائيلية أو مستشفيات الضفة، لكن الاحتلال أعاق خروجه مما أدى لوفاته".
بعد وفاة نجله بأيام تتصل إدارة المشفى بالنديم، يخبره المتصل: "ورقة ابنك جاهزة ..هاتوه عشان نعمل العملية"، فرد على المتصل ولا زالت والدته تذكر ذلك المشهد فقال: "راح للي أحسن مني ومنك .. هو الآن عنده ربه"، وها هو يرحل والد الطفل وتجتمع الروحان في السماء.