إسقاط حل الدولتين ليس إسقاطًا لمبادرة سياسية أو إسقاطًا لموقف سياسي ما، إنه إسقاط لمشروع سياسي قامت عليه كل التطورات السياسية في المنطقة منذ أكثر من 45 عامًا، وبنيت عليه المواقف المختلفة للدول، وأقيمت من أجله عملية "السلام"، ومؤتمر مدريد، واتفاق أوسلو، وباقي الاتفاقات.
إسقاط مشروع حل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي يعرضه مسؤولون في الإدارة الأميركية، وأكده الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام نتنياهو؛ هو إسقاط النهج السياسي الدولي الذي نشأ في أعقاب هزيمة حزيران (يونيو) عام 1967م، وتبناه الاتحاد السوفيتي، والإدارة الأميركية، ومصر، وسوريا، وعلى أساسه أطلقت منظمة التحرير الفلسطينية في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974م برنامج النقاط العشر، ثم أطلق ياسر عرفات أمام المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988م مشروع "السلام" والاعتراف بالكيان العبري، ثم وقع اتفاق أوسلو بمرحلتيه للتفاوض المؤقت والانتقالي.
على أساس "حل الدولتين" هذا اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بالكيان العبري، وتعهدت بالتنسيق الأمني لحمايته، وأسست السلطة الفلسطينية عام 1994م، وضُرِبت المقاومة، وعطلت الانتخابات البلدية والتشريعية، وقزمت منظمة التحرير على حساب توسع وتمدد السلطة.
خلال الأربعين سنة الماضية توسع الاستيطان، وجزئت الضفة الغربية وهودت القدس، ووصل عدد المستوطنين إلى 600 ألف، ومنع أي تواصل جغرافي بين المدن الفلسطينية، وأقيم الجدار العازل، وحوصرت غزة، وشنت عليها أربعة اعتداءات ضخمة، وتحولت السلطة الفلسطينية إلى إدارة سلطة حكم ذاتي دون سيادة أو سيطرة.
اليوم يقرر الأميركيون مع الإسرائيليين إسقاط نظرية "حل الدولتين"، ويقترح نتنياهو الضاحك أمام ترامب المبتسم اعترافًا فلسطينيًّا بيهودية "الدولة"، وسيطرة أمنية إسرائيلية مطلقة على غرب نهر الأردن.
إنها ببساطة انقلاب أميركي إسرائيلي متقن على نظرية التسوية وأساس عملية التفاوض.
لكنها رصاصة الرحمة على مشروع فارغ أطعم لبعض الفلسطينيين المهيمنين على منظمة التحرير، وزين لبعض من الشعب الفلسطيني.
اليوم هناك تراجع إسرائيلي أميركي معلن، وواضح، سببه التقارب الأميركي الإسرائيلي، ووجود معسكر اليمين في الحكم في الكيان الصهيوني، وحالة الضعف لدى السلطة الفلسطينية ورئيسها.
إسقاط "حل الدولتين" ليس مشروعًا مفاجئًا؛ فكل الممارسات السياسية والأمنية الإسرائيلية من تعطيل للمفاوضات واستيطان وتوسع وتهديد وحصار وقتل كانت مؤشرات على ذلك، وإسقاط "حل الدولتين" ليس صدمة لحماس وقوى المقاومة، بل هو صدمة للجهات التي سوقت للمشروع وراهنت عليه، ولم تعد الآن تجد ما تقوله.
قد نكون أمام إسقاط نهائي لحل الدولتين، وقد نكون أمام إسقاط مؤقت إلى حين خروج ترامب من الرئاسة، لكن من المؤكد أن حل الدولتين هذا لن يتحقق، وإن الممارسات الإسرائيلية الميدانية بغطاء أميركي ستتواصل للسيطرة الكاملة.
وسنبقى _الفلسطينيين_ بين محورين: محور المقاومة الواعي والمسؤول الذي رفض التسوية ولم يصدق حل الدولتين، ومحور فريق السلطة الذي لا يحسن إدارة القضايا ولا استغلال الأزمات، ولا يمتلك مشروعًا بديلًا عن حل الدولتين.