فلسطين أون لاين

​مغتربون داخل البيت.. الأسباب متعددة والتذكير برسالة الحياة واجب

...
صورة تعبيرية
غزة - مريم الشوبكي

ليست الغربة بعدًا عن الوطن فقط، بل يمكن أن تكون غربة الإنسان داخل بيته ومجتمعه، فهو يسكن مع أسرته في ذات المنزل، لكنه يعيش في عالمه الخاص بعيدا عن الاختلاط بأهله، فيكون حاضرًا جسدا بلا روح، وهذا غالبا ما يكون مرده لمجموعة من العوامل التي ساهمت في تشكيل شخصية الفرد الذي تجد في غربته راحة واستقرارًا..

مشاجراتٌ وصراخ

الطالبة الجامعية "شهد" (22 عاما)، غرفتها وهاتفها المحمول هما كل عالمها، تفضل البقاء طوال اليوم في غرفتها وحيدة لأنها تنشد الراحة والهدوء والبعد عن مشاكل البيت، وقليلا ما تشارك أفراد أسرتها الأحاديث والنقاشات.

تقول شهد (وهو اسم مستعار): "أجد الراحة في بعدي عن الاحتكاك في أفراد أسرتي، لأن جلوسي معهم يعني أن أكون في قلب المشاكل التي لا تنتهي، وحينها سأشعر بالضيق والتوتر، فمنذ وعيت على الدنيا ونحن في دوامة من المشاجرات والمشاكل والصراخ".

وتضيف: "اتخذت قرارًا بعدم الانخراط في المشاكل، لأني تعبت منها وأصبحت أكثر عصبية، وأثر ذلك على علاقتي بصديقاتي وكذلك المجتمع الخارجي الذي أتعامل معه، حتى بتّ أجد في الهروب من التواصل معه راحة، وانعدمت كذلك ثقتي بنفسي، وكان تجنب الاختلاط بالأسرة هو السبيل لتنفيذ هذا القرار".

مجرد رقم

"دينا" وهي مطلقة في الأربعين من عمرها (واسمها مستعارٌ) أيضا، تقول: "أشعر بالغربة داخل عائلتي بسبب النظرة المهينة تجاهي لكوني مطلقة، فكل شيء أفعله أحسب قبله ألف حساب، وأشعر أني عالة على عائلتي، وشخص غير مرغوب فيه من زوجات إخواني".

وتضيف: "أن أكون مجرد رقم في البيت فهذا يمثل لي راحة وهدوءًا نفسيًا، لأن الاحتكاك بأفراد أسرتي الكبيرة يجلب لي المشاكل والقيل والقال وسوء الفهم، ودوما يحملونني المسئولية عن سبب هذه المشكلات ويدّعون أني سببها".

وتستكمل قائلة: "جربت الغربة خارج الوطن، وجربت الغربة داخل أسرتي، وكانت هذه التجربة الأصعب لأنها فُرضت علي من أقرب الناس لي، وأدّت أيضا إلى التقليل من ثقتي بنفسي وخوفي من التواصل مع الناس".

الأجهزة الذكية

أما "شروق دلول" فلها رأي آخر في غربة الإنسان في بيته، إذ ترى أن غزو الأجهزة الذكية للبيوت وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، ساهما بشكل كبير في عزل الفرد عن عائلته، فغابت الاجتماعات والحوارات الأسرية.

وتقول: "للأسف، أصبحنا لا نعرف أخبار بعضنا داخل الأسرة إلا من خلال ما ننشره عبر (فيس بوك)، وإذا رغبنا في التحدث مع بعضنا ونحن في نفس البيت ولربما ذات الغرفة فإننا كثيرا ما نتواصل عبر برامج الدردشة مثل (واتس آب)".

وراثةٌ وعوامل أخرى

ويقول الأخصائي النفسي والاجتماعي زهير ملاخة إن هناك نوعين من الغربة، هما غربة مع الذات، وأخرى مع المجتمع، ودافع الشخص نحوها إما يكون العامل الوراثي، أو أن التنشئة والطباع المكتسبة من الأسرة لعبت دورا كبيرا في صقل شخصيته.

ويضيف لـ"فلسطين" أن أسلوب القسوة الزائدة من الوالدين تجاه أبنائهم في مراحل النمو المختلفة، والتفكك الأسري، يدفع الشخص إلى أن يتقوقع على نفسه، ويحاول الابتعاد عن الظروف القاسية على نفسيته.

وينوه إلى أن بعض أساليب الأسرة المزعجة مثل الصراخ، والشتائم، وتدخلات العائلة بشئون الفرد والتأثير على قراره هي أمور تشعره بالفشل، وتكرار هذه الأساليب يجعله يقرر الانفصال ذهنيا عن عائلته، ولذا فمن يشعر بالغربة في أسرته يفضل البقاء وحيدا في البيت ويجد راحته إذا بعد عن عائلته.

ويوضح ملاخة أن بعض الصفات الشخصية التي لها جذور وراثية عند الفرد تدفعه لتفضيل الانطواء على النفس، وتأصيل الأسرة لهذا العامل الوراثي يجعل منه شخصًا يرفض الاحتكاك بالآخرين، وبعض الشخصيات تعاني فوبيا من الاحتكاك بالآخرين وضعف الثقة بالنفس.

ويلفت إلى أن الإدمان أيضا يجعل الشخص يغترب عن الآخرين في الكبر، وهذا ليس له علاقة بالصفات الشخصية، وكذلك من مسببات الغربة التكنولوجيا، والمشاكل الاقتصادية، والاجتماعية التي تسبب مشاعر قلق واكتئاب لأصحابها فيفضلون بسببها عدم الاحتكاك بالناس، بالإضافة إلى النظرة السوداوية للمجتمع وإزاحة بعض المشاعر الشخصية على الآخرين.

وينبه ملاخة إلى أن الغربة في هذه الحالة بمراحلها البسيطة ليست مرضا نفسيا ولكن شعور بالراحة ورغبة من الفرد في عدم التدخل في شئون الغير، وعدم تدخل الآخرين في شئونه، وهذا يتطلب من المحيطين بالمغترب تذكيره برسالته في الحياة، وأن تقوقعه حول نفسه يجعله حيا في عداد الأموات، هذا يجعله يتبصر ذاته أكثر ويعرف نفسه أكثر ويعود لعلاقاته بالآخرين.