"يلا ارحل من هان".. يوجِّه أحد جنود الاحتلال كلامه للمواطن المقدسي علاء عميرة (39 عامًا)، ومن حوله 60 جنديًّا آخرون مدججين بالسلاح، حينما كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة.
لكن عميرة رفض الرحيل متمسكًا بحقه: "هدا بيتي.. انت اطلع برا منه"، فاستشاط جنود الاحتلال منه غضبًا وأرغموه على الخروج بالقوة، ابتعد عن البيت منكسر الخاطر متألم القلب يرى حلمه يهدم أمام ناظريه، لا يعرف كيف سيبلغ أطفاله وزوجته أن "بيت العمر" أصبح أثرًا بعد عين.
شرعت بواقر جيش الاحتلال في هدم مبنى عميرة المكون من طابقين والممتد على مساحة 250 مترًا بحي واد الحمص في بلدة صور باهر شرق مدينة القدس، شيئًا فشيئًا تقضم جدران وسقف البيت دون هوادة حتى ساوته أخيرًا في الأرض.
مشهد رآه عميرة أمام ناظريه وهو يعود بذاكرته للحظة الشروع في البناء قبل عامين، مع كل يوم يمضي في البناء كان أطفاله الستة يتشوقون للحظة التخلص من مسكنهم الضيق مع بيت جدهم إلى منزلهم الواسع الذي انتهت أعمال البناء فيه مؤخرا.
كحال جيرانه لم تمهل قوات الاحتلال عميرة وأسرته، حتى بالسكن في هذا المنزل ولو لمرة واحدة.
يقول عميرة لصحيفة "فلسطين" ويبدو الحزن باديًا في صوته: "لقد ضيعوا حلمي. هذه الأرض ورثتها عن أبي الذي ورثها عن جدي (...) أخي قام بالبناء في المنطقة عام 2009م، وقمتُ قبل عامين بالبناء بقربه بعد أن ادخرت المال عبر سنوات طويلة من العمل، حتى أتوسع لأني أعيش بغرفتين مع عائلتي في بيتهم بمنطقة أخرى بصور باهر".
"تحويشة العمر ضاعت"، يضيف متحسرًا على واقع الحال.
طوال فترة بناء منزله كان عميرة يصطحب أطفاله وزوجته للمنزل قبل هدمه، يشرفون على أعمال البناء يتلهفون لسكنه، قائلًا: "لقد خصصت لكل طفل فيه غرفة بمفرده، كانوا بشكل متواصل يأتون ويلعبون في حديقة المنزل، ومع أولاد الجيران هنا. كنت أريد تعويضهم بهذا المسكن الواسع عن عيشهم بغرفة واحدة في البيت القديم مع عائلتي، لكن كل شيء تحطم".
ويتابع: "لا يمكنني تجميع ثمن بناء بيت مرة أخرى، ويبدو أننا سنكمل حياتنا بالشقة الصغيرة".
ليس وحده منزل عميرة الذي هدمته سلطات الاحتلال، فمنذ صباح أمس شرعت بهدم 70 شقة بحي وادي الحمص، بعد موافقة المحكمة العليا الإسرائيلية على هدم 13 مبنى في الحي، بذريعة قربها من الجدار الفاصل.
يقول عميرة إنه، ومنذ لحظة صدور قرار من المحكمة الإسرائيلية كان ينام بمنزله خشية من هدمه، متوقعا ذلك في أي لحظة.
بعد انتهاء الهدم اتصل بزوجته يخبرها بضياع الحلم لترد عليه ذارفة دموع الحسرة: "حسبي الله ونعم الوكيل".
اقتحام مفاجئ
أفزع ذلك الصوت القادم من ناحية الباب الحاج الستيني غالب أبو هدوان من نفس المنطقة؛ لكن قرع الباب استمر حتى فتح الباب ليجد ابنه أمامه مرتجفا: "يابا الجيش الإسرائيلي معه آليات هان". دقائق معدودة مرت على هذا الحوار السريع الساعة الثالثة فجرا، حتى جاءت آليات وجنود الاحتلال إلى المنزل.
أخرج الجنود كافة أفراد الأسرة التسعة وطلبوا من الحاج أبو هدوان الخروج كذلك، لكنه رفض الانصياع متشبثا بمنزله حتى اللحظة الأخيرة: "هذا بيتي حياتي.. أهدموه عليّ".
وكعادتهم مع كل رد فلسطيني جريء، قيده أربعة من جنود جيش الاحتلال ثم طردوه خارج البيت، إفساحًا لـ"بواقر الهدم" بالشروع في هدم المنزل المكون من طابقين والمبني على مساحة 420 مترا.
حلم وتعب السنين رآه الحاج المقدسي يهدم أمام ناظريه يتألم ويحترق قلبه ولا يستطيع فعل شيء، إلى أن تحول مبناه الكبير إلى ركام اختلطت حجارته البيضاء "الصخرية" مع الرمال ليصبح لونها داكن.
يقول أبو هدوان لصحيفة فلسطين عبر الهاتف وهو ما زال يجلس على أطلال منزله المدمر: "هدموا تعب وجهد السنين عبر سنوات من العمل كي أؤمن مستقبل أبنائي".
ويضيف بصوت متألم ونبرة غاصبة على ما حل بهم: "ذهب تعب السنين بساعتين وما زالت علينا التزامات مالية للموردين والمقاولين. لقد أسست المنزل بمبالغ كبيرة وكنت أطمح لبناء تسعة طوابق".
ويتابع: "لا أعرف ماذا سأفعل وأين سنذهب.. لقد شُرِّدنا".
"المشكلة بدأت عندما شق جدار الفصل العنصري منطقتنا الواقعة في المنطقة المسماة "أ"، وكنا بالمنطقة الواقعة خارج الضفة الغربية حسب تسمية الاحتلال أمام الواقع الجديد الذي فرضه، أي داخل أسوار القدس المحتلة، وبعد أن قمنا بالانتهاء من بناء مساكننا جاء جيش الاحتلال وطلب إخلائها فتوجهنا للمحكمة العليا الإسرائيلية"، يتحدث عن أصل القضية.
في البداية اعتقد أهالي وادي الحمص أن المحكمة ستقوم بإنصافهم بسبب الكلام "المعسول" الذي كانوا يسمعونه خلال الجلسات من القضاة الإسرائيليين، بعد أن أصدرت قرارا قبل عامين ونصف العام يمنع الأهالي من البناء وكذلك جيش الاحتلال من الهدم، إلا أنها سمحت للجيش قبل شهر بالهدم.
يعلق الحاج المقدسي على قرار المحكمة قائلًا: "في الجلسة الأخيرة أسمعونا كلاما كثيرا واعتقدنا أن الأمور لصالحنا، لكنهم كانوا يخططون مع جيش الاحتلال لتدمير أحلامنا".