تقلِّب الطفلة إيناس (عامان ونصف) الهاتف المحمول بعد أن نجحت في التقاط صورة "سيلفي" وهي تجلس بحضن والدها الصياد خضر الصعيدي (31 عامًا)، تريد مشاركته سعادتها: "شوف يا بابا صورتي ع الجوال.. أنا حلوة؟!"، دون أن تدري ما حل بوالدها يجيبها: "آه حلوة يا بابا".
هذه الطفلة لا تعي أن والدها الذي غادر المنزل قبل شهور لصيد الأسماك في بحر غزة، عاد بالإسعاف عاجزًا عن الرؤية، بعدما أطلقت بحرية الاحتلال الإسرائيلي في 20 فبراير/ شباط الماضي وابلًا من الرصاص المعدني المغلف بالمطاط عليه حتى أفقدته البصر.
وبينما كنا جلوسًا في فناء منزله بمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة مع والديه وأبنائه، جاء الصياد الصعيدي بخطوات بطيئة حذرة يمسكه طفله الصغير، مرشدًا إياه نحو الكرسي البلاستيكي، فبدأ الحديث حول جرائم الاحتلال ضد الصيادين.
كرسي بثلاثة أرجل!
في 23 مارس/ آذار 2017، وبينما كانت توشك الشمس على الاختفاء خلف الأفق، انطلق الصعيدي في رحلة بحرية واعدًا أطفاله بـ"صيد وفير"، فنثر "الغزل" في مياه البحر على بعد ستة أميال.
يعود في حديثه مع صحيفة "فلسطين" لما عايشه وكأنه يعيش المشهد مرة أخرى: "اقتربنا من شباكنا لجمع الأسماك، لكن زوارق الاحتلال فاجأتنا بإطلاق النار علينا، فأصابت قدمي رصاصة معدنية مغلفة بالمطاط، واعتقلوني برفقة ابن عمي الذي أصيب في عينه، واقتادونا إلى ميناء أسدود، ثم وضعوني في سجن ريمون ثم نقلوني إلى سجن نفحة".
وفي إحدى جلسات التحقيق على مدار 32 يومًا، مرت 12 ساعة متواصلة على جلوس الصياد الصعيدي على كرسي بلاستيكي بثلاثة أرجل، وبينما هو كذلك، دخل ضابط إسرائيلي وفتح جهاز الحاسوب عارضًا على شاشته صورة لميناء غزة ومخيم الشاطئ، وسأل الصعيدي: "أين مواقع تدريب عناصر الكوماندوز البحري لحماس؟"، فردَّ: "لا أعلم"، فغادر الضابط الغرفة.
تكرر المشهد السابق عدة مرات، إلى أن استخدم الضابط طريقة جديدة، يكمل الصعيدي الحديث عنها: "أحضروني إلى نفس الغرفة، ووضعوا في يدي أسلاكًا متصلة بجهاز كهربائي وقال الضابط لي: "هذا جهاز فحص الكذب"، وسألني: "هل عندك أولاد؟"، أجبت: "نعم"، فأضاف: "أرأيت؟ لقد ظهرت العلامة الخضراء، ويعني أنك تجيب بصدق"، ثم سألني: "أين مواقع حماس لتدريب العناصر البحرية؟"، فأجبت: "لا أعلم"، فغضب مرة أخرى وقال: "لقد كذبت".
مر 14 شهرًا صعبًا على الصياد الغزي بعيدًا عن أطفاله الثلاثة، حتى أفرج عنه في 24 إبريل/ نيسان 2018. يقول: "بعد مدَّة من التردد عدت للصيد ضمن مسافات قليلة خشية الاعتقال".
مساحة صيد أم كمين؟
كان 20 فبراير/ شباط الماضي مختلفًا، فبعد إعلان سلطات الاحتلال السماح بالصيد لمسافة 12 ميلًا بحريًّا، أبحر الصعيدي بمركب صغير "لنش" قبالة شاطئ خان يونس جنوب قطاع غزة على مسافة 9 أميال؛ خشية غدر الاحتلال الذي لا ينفذ ما يعلن عنه، ومرة أخرى أوشك على جمع "الغزل" التاسعة مساءً، فهاجمته أربعة قوارب إسرائيلية مطاطية يسميها الصيادون "عباسات" وزورق كبير "دبور" وبدأت في إطلاق الرصاص المطاطي بشكل عشوائي وبغزارة تجاهه حتى فقد الوعي.
بعد يومين استيقظ الصعيدي في المشفى، فسمع صوت طبيب إسرائيلي يحدثه بالعربية: "أجرينا لك عملية"، فصرخ: "مش شايف اشي"، بعد أن وضع يده على عينه اليمنى ليجد مكانها فارغًا كأنها سُرقت، وكان لا يرى باليسرى. موقف صعب لا ينساه في حياته يسترجعه: "أخبرني الطبيب أنني سأرى بعيني اليسرى بعد أسبوع، وأنهم سيجرون لي عملية أخرى كي أستطيع الرؤية بعين واحدة، إلا أنه ساومني على ذلك".
كان يرافق الطبيب ضابط بحرية الاحتلال التي أصابته، يتحدث للصعيدي بـ"العبرية"، والطبيب يترجم مظهرًا تعاطفه: "بدنا نساعدك"، تعجب الصياد: "كيف تساعدونني وقد أفقدتموني بصري؟"، فقدَّم الضابط عرضه: "سنعطيك 100 ألف دولار مقابل عدم رفع قضية في المحاكم وسنعيد لك قاربين"، لكنه رفض.
تحسس الصعيدي وهو يتحدث إلينا رأس ابنته قائلًا: "انظر، ابنتي تجلس في حضني ولا أستطيع رؤيتها، هذا موقف وشعور صعب جدًّا لم أعتده".
والده الصياد مروان الصعيدي (58 عامًا) الذي يجلس بجانب ابنه فاقد البصر، لا ينسى مشهد عودة ابنه بعد إصابته بقوله: "أحضروه مثل الميت أو الشهيد في كفن أبيض، ذهبنا به لمستشفى العيون بغزة، كان العظم حول العين اليمنى محطمًا، وكل الأجزاء وشبكية العين ليست موجودة وكأنها مسروقة".
ظلت العائلة على أمل أن يرى ابنها بالعين اليسرى بإجراء عملية "وصل العصب المقطوع فيها"، بحسب الموعد الذي حدده الطبيب الإسرائيلي في 11 مارس/ آذار الماضي، يضيف والده وهو يفرد ذراعيه مصحوبة بنبرة صوت غاضبة مما حدث: "أجرينا كل الأوراق المطلوبة لكن مخابرات الاحتلال رفضت إدخاله، فحدد المشفى الإسرائيلي موعدًا في 15 مايو/ أيار الماضي".
وتابع: "ربما تغير الموعد حتى نؤجل رفع القضية في المحاكم الإسرائيلية بواسطة مؤسسات حقوق الإنسان، وفي هذه الفترة ذهبت إلى مصر وزرعت لابني عينًا زجاجية إلى أن جاء موعد العملية ورفض الاحتلال علاجه مرة أخرى، فرفعنا تلك الدعوى لملاحقة الاحتلال على جريمته".
وسببت الرصاصات الإسرائيلية عجزًا للصياد الصعيدي أقعدته عن العمل وحرمته من رؤية أطفاله الثلاثة: محمد (7 أعوام) وهاشم (4 أعوام) وإيناس (عامان ونصف).
مواقف كثيرة صعبة تمر على الصياد الصعيدي، فبعد أن كان المعيل الوحيد لأربعة عشر فردًا من أسرته، بات الآن بحاجة لمن يمسك يده ليدله على طريق الخروج من غرفته، إلا أنه ما زال متشبثًا بأمل إجراء عملية جراحية في "ألمانيا أو روسيا"، متمنيًا أن يتحقق ذلك وقلبه يلعن الاحتلال على جريمته.