ما هذا القطاع الذي بمقياس المساحات ليس كبيرًا ولا شاسعًا، ومع ذلك ينشغل به العدو والصديق، والدول الكبرى والإقليمية والمؤثرة وغير المؤثرة يجتمعون ليلًا ونهارًا في أقصى الشرق والغرب يبحثون أمر غزة الواقفة شامخة بعزة وكرامة في وجه الاحتلال والحصار، فهي أحد التحديات الكبرى للكيان الإسرائيلي، ولست في معرض بخس أي طرف أو ساحة مواجهة أخرى ما يمثلون من تحدّ، لكن غزة ظلت حالة مستمرة متراكمة متجددة بعنفوان متصاعد يومًا بعد يوم.
غزة كانت ولاتزال شوكة في حلق الاحتلال، وإذا كان رابين قد تمنى يومًا أن يبتلع البحر غزة، فإنه أدرك بحس اللص المجرم أن هذه البقعة الصغيرة من الأرض المسلوبة ستمثل التحدي الأكبر لمشروعه، وستكون صداعًا مزمنًا، وحين هرب (نعم هرب) شارون من غزة، ساد ظنٌّ أنها قد خرجت من دائرة الصراع المباشر مع المشروع الصهيوني، لكن الحقيقة قالت وتقول إن غزة ظلت تطارد الكيان وتواصل بإصرار أن تكون أرقًا لقادته من العمل أو ليكود أو كاديما أو غيرهم.
مع ضرورة الأخذ بالحسبان والميزان أن المقاومة في لبنان خاضت حرب صيف 2006م والمواجهات التي سبقتها في ظروف مريحة نسبيًّا؛ فهناك تضاريس ملائمة للقتال والكرّ والفرّ ومساحات واسعة للمناورة، وحجم الدعم والإسناد الذي تتمتع به لا يقارن بغزة، نظرًا إلى التصاق لبنان بسوريا، وقدرة المقاومة بحكم الجغرافية المريحة على توفير الدعم الإيراني الكامل بكل سهولة، على الأقل مقارنة بوضع غزة، أليس كذلك؟
وفي المقابل إن قطاع غزة بالمقياس العسكري المجرّد الافتراضي هو منطقة يسهل سقوطها في أول جولة، فهذا القطاع هو كما نعلم شريط ساحلي ضيق بمساحة تقدر بنحو 365 كم2 ذات جغرافية سهلة يعرف الاحتلال أدق تفاصيلها، ومع ذلك ومع الخسائر في الأرواح والممتلكات والبنية التحتية، وكل الظروف الصعبة جغرافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا؛ قاتلت غزة، وخاضت خلال عقد من الزمن ثلاث حروب، وما قبل هذه الحروب وما بينها وبعدها حتى اللحظة تخوض غزة مواجهات على هامش التهدئة الهشة، وجولات القتال فيها لا تكاد تتوقف إلا لتبدأ من جديد، مادام الاحتلال عاجزًا على إخضاع غزة وتركيعها، أو انتزاع (صورة نصر) لإحياء الردع الذي تآكل وأصابه الضعف والتراجع مقابل عناد المقاومة الفلسطينية، حتى مبدأ عدم خوض معارك الاستنزاف الطويلة الأمد لم يستطع الجيش الإسرائيلي الالتزام به مع مسيرات العودة والإرباك الليلي والبالونات الحارقة والتظاهرات البحرية.
فقد قصفوا السودان وسوريا وضربوا أسطول الحرية ولما ضربوا الغزيين غزة ضربت "تل أبيب"، حتى الضربات الاستباقية التي اعتاد جيش الاحتلال الإسرائيلي توجيهها للتهديدات الإستراتيجية لم تفلح في إضعاف المقاومة، وما آلت إليه الأمور في جولة التصعيد الأخيرة، وما أظهرته المقاومة من إمكانات وقدرات، يشهدان بنجاح المقاومة في تجاوز الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة، وتطوير قدراتها العسكرية تطويرًا يستحق التقدير والإعجاب.
السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يمنع الاحتلال الإسرائيلي من اجتياح قطاع غزة؟
لاشك أن إصرار غزة على مقاومة الاحتلال وصمودها في وجه الحصار زادا صعوبة اتخاذ القيادة الإسرائيلية قرار الحرب، إضافة إلى ما يتصف به الفلسطينيون من إرادة قوية وعقيدة قتالية صلبة، وقد أحيت مسيرات العودة لدى الشبان الفلسطينيين روح التحدي والمواجهة، وهم يرون أنهم في حالة دفاع عن النفس، أيضًا التنوع الحاصل في العمل المقاوم الفلسطيني، وعدم وضوح ما تمتلكه تلك الفصائل من إمكانات وقدرات؛ رصيد إضافي في مخزون المقاومة، وزيادة في إرباك حسابات العدو، لكونه لا يعلم طبيعة الأسلحة التي يجب أن يحتاط منها، ولا يعلم أماكن التخزين أو التصنيع فيستهدفها، وبذلك هو يقاتل مقاومة لا يعرف عنها، إلا القليل، وتوفير المعلومة الدقيقة في الحرب هو الخطوة الأولى واللازمة لاتخاذ القرار العملياتي الصحيح.
وخلاصة القول: إن الاحتلال الإسرائيلي يعاني العجز في كيفية التعامل مع المقاومة الفلسطينية، فقد سبق أن شنّ ثلاث حروب قاسية على مدار عشر سنوات سابقة، وشدّد من إجراءات الحصار الخانق على قطاع غزة، لكن المعاناة التي عاشها الفلسطينيون في غزة لم تؤثر سلبًا على المقاومة وصمود الغزيين، وبقيت روح التحدي للاحتلال مشتعلة وقوية، ومع مرور الأيام تزداد قوة وتماسك جبهة المقاومة في الوقت ذاته الذي بدأت تظهر فيه مؤشرات فشل الحصار، وتأتي استقالة وزير الجيش الإسرائيلي ليبرمان من الحكومة، وفشل نتنياهو في تشكيل حكومة جديدة لأسباب عديدة، أهمها الهاجس الأمني من غزة، وأصبح قرار الحرب أمنية صعبة المنال.