واحدةٌ من أعاجيب (إسرائيل)، ومفارقاتها، أنها بينما تزداد قوةً، وتسلُّحًا، ومكانةً لدى أميركا والغرب، وبينما يستمرُّ ازدراؤها القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، تخافُ من ماضيها الذي صنعت نفسَها في غضونه. يعرف جيشُها وحكّامها وناس أجهزتها وإعلامها أنها قامت دولةً وكيانًا على اقتراف جرائم قتلٍ وطردٍ ونهب، وأنها لولا هذه الجرائم، إبّان 1948 وقبلها وبعدها، ما كانت لتصبح الدولة العضو في الأمم المتحدة. دلّ على هذا، مجدّدًا، التقرير الذي نشرته صحيفة هآرتس العبرية، يوم الجمعة الماضي، وكشف عن دفن (إسرائيل) مئات الوثائق التاريخية عن قتل وتهجير فلسطينيين وهدم قرى فلسطينية، بغرض إخفاء تاريخٍ إجرامي شنيع، عن مجازر، مثلًا، كالتي ارتكبها الجيش المحتل في أكتوبر/ تشرين الأول 1948 في بلدة الصفصاف، في الجليل الفلسطيني الأعلى، وقضى فيها 52 فلسطينيًا، والتي ينقل تقرير الصحيفة تفاصيل مروّعة عنها، نقلًا عن وثيقةٍ يجري إخفاؤها، اطّلعت عليها مؤرّخة إسرائيلية، كما وثائق أخرى. وتوضح "هآرتس" في تقريرها الموثّق والمهم (نشر ترجمةً كاملةً له الموقعان الزميلان، "رمّان" و"ألترا صوت")، أن جهازًا أمنيًا سرّيًا يعمل على نقل الوثائق واحتجازها ودفنها في خزنات، في "عمليةٍ منهجيةٍ لطمس أدلةٍ على النكبة".
تقتل (إسرائيل) ستين فلسطينيًا في يومٍ واحد، عند تخوم قطاع غزة، فتيةً وأطفالا ونساء، من بين غزّيين تجمّعوا بلا سلاح معهم سوى حناجرهم تهتف بالعودة إلى مدنهم وقراهم المسروقة، ورايات فلسطين، ولكن (جيش الدفاع) يقتل هذا العدد منهم، عدا عن الجرحى، بدعوى الدفاع عن النفس، من دون أي شعورٍ بأي حرج من فداحة الجريمة. يحدُث هذا أمام كاميرات التلفزات، وعلى الهواء مباشرة، في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين. ويحدُث مثله في اعتداء قوةٍ من الجيش نفسه على سفينةٍ تركيةٍ في عرض البحر، وتقتل تسعةً ممن فيها، بصلافةٍ مشهودة، من دون أدنى اعتبارٍ لأي حساباتٍ أخلاقيةٍ أو دبلوماسية. وهذان شاهدان فحسب على جرائم يصعب عدّها، لم تتوقف عن ارتكابها دولةُ المحتلين التي لا يُفزعها شيءٌ بصدد هذه الجرائم "المألوفة" التي اعتادت عليها، وعلى الهُزء من إداناتها العابرة. أما فظائع ما ألحقته عصابات الهاغاناة وشتيرن، وغيرها من تشكيلاتٍ صهيونيةٍ، ذات ملفاتٍ سوداء، بالشعب الفلسطيني، إبّان "حرب الاستقلال"، بحسب المسمّى الإسرائيلي للنكبة، فأمرُها مختلف، لأن يهود العالم قدموا إلى أرض الميعاد، الخالية إلا من بدو وسكان عابرين، فأقاموا فيها، باعتبارها وطنهم، دولتهم، وكانوا نظيفين في صدامهم مع من حاربهم من عربٍ، عاندوا مشيئة الله. .. هذه المروية الإسرائيلية مقلقٌ جدًا لدولة الاحتلال، القوية التي تصدّر أسلحةً إلى الهند والصين، أن تنخدش، فمن شأن شيوع أي كلامٍ عن جرائم، تم فيها، مثلًا، تقييد الضحايا الفلسطينيين، الواحد بالآخر، وألقي بهم في بئر، وأطلق عليهم الرصاص، وتم قطع إصبع أحدهم بسكّين لسرقة خاتم منه، عدا عن اغتصاب ثلاث نساء، وفظاعاتٍ أخرى، على ما فصّلت فيه الوثيقة المتعلقة بمجزرة الصفصاف.
ولكن هل تفلح دولة الصهاينة في فعلتها هذه، أي في تعزيز أزعومتها عن نفسها، وإزاحة الرواية الفلسطينية عن تغريبة الطرد والقتل والتهجير؟ لا، فالواضح مما نشرته "هآرتس" أن (إسرائيل) تزاول تكاذبًا لا طائل منه، غير أن لتسليمِنا نحن العرب بهذه البديهية محاذيرَه، إذا ما ترافق مع قعود عن همّةٍ لازمة، لأن معركة التاريخ شرسة، كما معركة الحضور الثقافي لشعب فلسطين في العالم، صاحب حق، صاحب وطن، سرقوه السارقون في جرائم لها أرشيفُها، ثمّة من ينقلون رواياتِها من جيلٍ إلى جيل، فقد خابت فرية بن غوريون في 1948، إن الكبار سيموتون والصغار سينسون.. ومن بين شواهد غزيرةٍ على هذه الخيبة أن فلسطينيي بلدة الصفصاف، اللاجئين في لبنان، بنوا بلدتهم المغيّبة، المقامة عليها مستوطنة، في خريطةٍ استعادت كل بيت ومنزل، ووثقت كل شهداء المجزرة غير المنسية. وكان بديعًا من تلفزيون العربي أنه أنجز فيلم "الطريق إلى الصفصاف"، وبثّه، فعرّفنا إلى الصنيع المدهش لهؤلاء الناس.. لو نُشاهد الفيلم مرّاتٍ بعد قراءة تقرير "هآرتس" إذن.
العربي الجديد