حين قررت المقاومة امتلاك زمام المبادرة وخوض معركة طاحنة وقاسية تضع حداً لجرائم العدو الإسرائيلي وغطرسته المستمرة وتغوله على أبناء شعبنا، فكانت معركة "العصف المأكول" التي أدارتها كتائب القسام في مواجهة الحرب العدوانية الصهيونية التي أطلق عليها (الجرف الصامد) إلى جانب قوى المقاومة المختلفة التي تصدت بكل بسالة لهذا العدوان الهمجي البربري.
51 يوماً من المعركة حملت الكثير من المفاجآت وكشفت خبايا كانت تخفيها المقاومة، لتظهر قدرات قتالية متقدمة في مسرح العمليات وتربك حسابات الصهاينة على أكثر من صعيد، فاستطاعت المقاومة استنزاف العدو على كل الجبهات وفي كل ساحة فأصبح يتلقف ضربات المقاومة من البحر ومن الجو، فضلا عن ضربات المقاومة على الأرض داخل قطاع غزة، وخارجه خلف السياج الفاصل.. ليبدأ بلملمة جراحه وإحصاء قتلاه من الأيام الأولى وهو ما شكل "صدمة" لقيادة العدو الإسرائيلي في مستوياته السياسية والعسكرية والتي فشلت في إحكام السيطرة على قطاع غزة، كما فشلت في إرباك أداء المقاومة أو على الأقل الحد من قدرات كتائب القسام التي ظهرت في واجهة العمليات أمام قوات النخبة الصهيونية لتلحق بهم أشد هزيمة وتشعرهم بالعار وقد بثت صورا حية للعمليات أثناء المعركة تظهر بطولة مقاتليها وقدرتهم على إصابة الأهداف بدقة.
وقد بدا العدو عاجزاً عن حماية جبهته الداخلية التي طالما حاول الحفاظ عليها وبذل جهدا مضنيا في سبيل منع أي خطر خارجي من الوصول إليها أو حتى تهديدها في أي مواجهة وفشلت معه فرقه المتخصصة وتجهيزاته المتطورة ومعها مناوراته المستمرة التي ذهبت وتبخرت مع سقوط صواريخ وقذائف المقاومة في ظل فشل منظومة دفاعه (القبة الحديدية) وغيرها من الدفاعات المتطورة التي أصبحت أيضاً هدفاً مشروعاً للمقاومة.
ليتدحرج ويتنامى الخطر ويصل إلى أسر جنوده من داخل دباباتهم وإخفائهم خلف المجهول ويصبحوا أرقاما في سجلات المقاومة بل أوراق قوة بيد حركة حماس وكتائب القسام، والتي فشلت كل محاولات عزلها أو التأثير عليها أو إسقاطها وتحطمت حلقات طويلة من مؤامرات متواترة كانت تستهدفها لدفعها للاستسلام والتخلي عن برنامج المقاومة والرضوخ لرغبات ومطالب العدو الإسرائيلي وحلفائه في المنطقة.
حملت هذه المعركة دلالات كثيرة وكشفت الستار عن قدرات نوعية تفاجأ بها العدو والصديق جعلت قيادته تفقد الأمل في إمكانية تحقيق أي من أهدافه العسكرية، فلم يكن من السهل أن يستوعب هذا العدو أن تحلق طائرات كتائب القسام فوق أراضينا المحتلة، أو أن يتم مداهمته من قوات الكومندوز القسامية من البحر، أو حتى اختراق منظومة الإعلام والاتصالات الخاصة بالعدو، أو أن تصل القدرات الصاروخية لجميع مدن الاحتلال وعلى رأسها (تل أبيب)؛ فمشهد التحدي الذي فرضته كتائب القسام وهي تدعو لإغلاق المطارات الإسرائيلية والتحذير المرفق لشركات الطيران العالمية بالمغادرة قبل القصف ودعوة وسائل الإعلام لتغطية القصف كانت ضربة قاسية أصابت منظومة الأمن والدفاع التي تغنى بها العدو الإسرائيلي طويلاً بينما أصيبت بالشلل أمام هذا المشهد الصادم.
لست بصدد استعراض حصاد الأرقام ولا مديات الصواريخ ولا ذكر أسماء العمليات التي أخذت حيزاً واسعاً من بيانات كتائب القسام ووسائل الإعلام المختلفة ولكننا أحرص على إظهار القدرة الفريدة التي أظهرتها حماس بجناحها السياسي الذي شكل رافعة للعمل المقاوم واحتضن أداءها وتكفل بإبقاء قنوات التواصل مع الجهات الإقليمية الدولية حيث خاطرت قيادة حماس من خلال تحركها باتجاه القاهرة في ذروة الخطر وارتفاع حجم النار وجسامة الجرائم الإسرائيلية، لوقف العدوان ولجم الاحتلال والسعي لتحقيق مطالب وشروط المقاومة الفلسطينية، والتي هي بمثابة حقوق يطالب بها شعبنا حتى يحيا حياة كريمة.
الى جانب قدرة القيادة العسكرية لكتائب القسام على اتخاذ القرارات الحساسة والدقيقة في ظل العدوان واستهداف شعبنا من الآلة الحربية الإسرائيلية، فاستطاعت توجيه هذا الكم الكبير من المقاتلين على الأرض في مسرح العمليات ومواكبة التحديات والمخاطر ومتابعة المستجدات وتحديد الردود المناسبة على أفعال العدوان مع المحافظة على التدرج في استخدام النار والحرص على تحقيق أكبر قدر من حالة الردع لقوات العدو الإسرائيلي.
لخصت هذه المعركة مرحلة فارقة في تاريخ المواجهة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي ودفعته لإعادة حساباته جيدا قبل التورط في أي عدوان جديد على القطاع بعد الانتكاسات التي لحقت به وبجنوده على المستويات كافة نتيجة الفعل المقاوم وفشله في إسقاط قلعة المقاومة التي تمثلها حركة حماس وقوى المقاومة في غزة.
لم تقف قدرات المقاومة عند التفوق في العمل السياسي والعسكري، بل سجلت قدرات هائلة في العمل بالمجالات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وذلك بقدرة المقاومة على توفير الحد الأدنى من الإمكانيات المالية والمادية لإيواء المدمرة بيوتهم من أبناء شعبنا، واستيعاب مئات آلاف المشردين من بيوتهم- الذين أخرجهم الاحتلال بقوة النار من بيوتهم، ليشكلوا عبئاً على المقاومة- فإذا بهم يتحولون الى حاضنة للمقاومة التي ظلت تقاتل على أرضية صلبة مستمدة من دعم وعطاء جماهير شعبنا الذي لا ينضب.