لا تستطيعُ حكومةٌ أن تنكر علمها بحقيقة ورشة المنامة الاقتصادية، وما الأهداف المرجوة منها، والآمال المعقودة عليها، ومن الجهة الداعية إليها والراعية لها، فالجميع دون استثناءٍ يعرف أنها جزءٌ رئيسٌ من صفقة القرن الأمريكية، وأنها تستهدف وضع الأسس الاقتصادية لمشروع تصفية القضية الفلسطينية، وتحويلها من قضية سياسية إلى قضية إنسانية فقط، وأنها ستؤسس لمشاريع اقتصادية عملاقة في المناطق الفلسطينية وفي دول الجوار، بقصد خدمة الكيان الفلسطيني الجديد، وتمكينه من العيش والبقاء ومده بأسباب الحياة المختلفة، وهذا كله مقابل أن يحظى الكيان الصهيوني بحق البقاء والاعتراف، ضمن أحلامه القديمة وأطماعه الجديدة في معظم أرض فلسطين التاريخية، وفيها مناطق واسعة من القدس والضفة الغربية.
الحكومات المدعوة والمشاركة تعلم أنها تذهب إلى المنامة بمذكرة جلبٍ أمريكيةٍ، وبسوط "الكاوبوي" الأمريكي وبندقيته، سواء أكانت راضية وموافقة على القضية التي تجلب لأجلها أم تساق إليها، أم أنها مكرهة على ذلك ولكنها لا تقوى على الرفض والاعتراض، فهذا التباين لا يلغي أبدًا أنهم جميعًا لا يملكون حرية قرارهم، وليس لهم الخيرة من أمرهم، فهم عبيدٌ لدى السيد الأمريكي، وأجراء بالسخرة لدى إدارته، بل إنهم يدفعون مقابل استخدامهم وبدل استئجارهم، ويرجون من الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني أن يرضيا عنهم، وأن يقبلوهم، وهم يعلمون يقينًا من قبل بنص القرآن الكريم أنهم لن يرضوا عنهم، ولو اتبعوا ملتهم وكانوا عبيدًا عندهم.
مع معرفتهم التامة وعلمهم اليقيني بعضٌ منهم انساق كالقطيع خلف الإدارة الأمريكية، وبعضهم سبق ككلب الحراسة الذي يسبق القطيع والراعي فحضر قبلهم، ظانين أنهم بعملهم هذا يحسنون صنعًا، ويقدمون للفلسطينيين نفعًا، وما علموا أنهم بذلك شركاء في الجريمة، وطرفٌ أساسٌ فيها، مهما كانت تسويغات بعضهم وحجتهم في المشاركة، إذ لا تفسير لوجودهم سوى أنهم شركاء أو أدواتٌ فيها وأجراءٌ، وفي كل الأحوال هم جزءٌ من الجريمة، بل هم الأداة الرئيسة التي تستخدمها الإدارة الأمريكية وتهدد بها، إذ دونهم يصعب عليها أن تقرر أو تقترح، أو أن تفرض مشروعًا وتتصور حلًّا للأزمة.
لا مسوغ لوجود أي دولةٍ عربيةٍ أو إسلاميةٍ في هذا المؤتمر المشبوه بحجة فهم ما يجري، أو تصحيح ما يعرض، أو التعمية على الجهة الداعية، أو الخوف في حال الغياب من تقرير الأسوأ؛ فهذه أعذارٌ واهيةٌ غير مقبولة، ومسوغاتٌ مشبوهة وغير مشروعة، لا يقبلها عاقل ولا يسلم بها مسؤولٌ، فما مسوغ وجود من يدعي الطهر والشرف في دار الدعارة مثلًا، أو في الخمارة ونوادي الميسر والقمار؟!، وما عذر من يراقب ابنته التي تتنقل في المراقص والملاهي من طاولةٍ إلى أخرى خشية أن يستغلها مخمورٌ؟!، وعليه إن المشاركة الفعلية أو الحضور الصامت كلاهما جريمة واحدة على القدر نفسه من الخطورة والخيانة، تمامًا كالداخل إلى الماخور أو الخمارة، وإن لم يمارس المنكر ذاته.
أيها العرب جميعًا، هذا يومُ الفصل، لا شك، يومٌ يتميز فيه الأشراف ويرفعون، ويُعرفُ فيه المرجفون ويسقطون، والذي في المنامة جمعُ ضرارٍ وتآمرُ أشرارٍ، فمن كان فيه خيرًا ترك ناديهم وقاطع، وامتنع عن شرورهم واستعلى، وأما من صمت وشارك فهو مثلهم في الرذيلة قد وقع، وفي المنكر ولغ وللحرام ارتكب، وبمشاركته يكون قد خان العهد وفرط في العقد، واستحق غضب الشعوب ولعنة التاريخ أبدًا.
امتازوا اليوم -أيها القادة العرب- بمواقفكم، وأروا الله (عز وجل) وشعوبكم الكريمة صدقكم وعزمكم، وإخلاصكم وولاءكم، وقاطعوا بعزةٍ، وارفضوا بشممٍ، وتعالوا على دعاة الفتنة بإباءٍ، وقولوا بعالي الصوت بجرأةٍ وبلا خوفٍ: لا للإدارة الأمريكية ولا لإملاءاتها، ونعم لفلسطين الأرض المباركة، ونعم لوعد الله الخالد لنا بالنصر والتمكين، ونعم للقدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، ونعم لمسرى الرسول ومهد المسيح، فهذا يومٌ له ما بعده، ومشهدٌ له بين الأشراف في التاريخ مثله، فطوبى لمن كان له فيه بالعز موقف وللحق كلمة.