قبل أن تتسارع الأحداث في القدس وتأخذنا بعيدًا عن اقتحام 28 رمضان، لابد أن نقف عند اقتحام نحو 1,400 من المستوطنين المتطرفين للأقصى، صبيحة أحد أيام العشر الأواخر في رمضان، بحماية القوات الخاصة للشرطة الصهيونية، والتنكيل بمئات المقدسيين والفلسطينيين الذين اعتكفوا في الأقصى ووجدوا فيه لصد الاقتحام، باستخدام غاز الفلفل والقنابل الصاعقة والصوتية، وبضرب عدد منهم، واعتقال عددٍ آخر.
في الليلة السابقة فقط كان المسجد الأقصى عامرًا بمئات الآلاف من المعتكفين الذين قدرتهم دائرة الأوقاف الإسلامية بأربعمائة ألف، ولم تكد تمرّ 24 ساعة على هذا الاعتكاف الحاشد الذي لم يشهد الأقصى مثله منذ عقدٍ من الزمن -وربما لا نبالغ إن قلنا منذ احتلاله- حتى كان متروكًا وحيدًا عاريًا مستفردًا به، بيدي شرطة الاحتلال ومتطرفي المعبد، في مواجهة ثلة قليلة من أهله الذين ثبتوا فيه ولبوا نداءه، ونالهم في ذلك القرح والألم.
لقد شكل اقتحام 28 رمضان جرحًا في وعي من حضره ومن تابعه، وشكّل انتكاسةً في مسارٍ إجمالي صاعد، لقد تمكن الردع الجماهيري من حماية الأقصى في أربع تجارب كبرى امتدت على مدى أكثر من عشر سنواتٍ من الزمن، بدءًا من تجربة الرباط ومصاطب العلم بين 2009م و2015م، التي وصلت إلى نهايتها مع حظر الاحتلال مؤسسات الرباط والحركة الإسلامية، مرورًا بانتفاضة السكاكين التي أفشلت محاولة التقسيم الزماني التام خلال أسابيع عبر تفاهمات كيري التي أعلنت من عمان في 21-10-2015م.
أما التجربتان الثالثة والرابعة فكانتا أكثر كثافةً من حيث المشاركة الجماهيرية، وأسرع وأوضح في تحقيق أهدافهما: فالثالثة كانت محطة باب الأسباط التي انتهت بتفكيك البوابات الإلكترونية والكاميرات، ودخول المقدسيين إلى الأقصى دخول الفاتحين في 27/7/2017م، أما الرابعة فكانت محطة هبة باب الرحمة التي أفشلت مخططات التقسيم المكاني، وأعادت فتح مبنى باب الرحمة مصلى في 22/2/2019م، ما يضمن اتصال الجماهير الدائم به، وحضورها لحمايته متى شن عليه عدوان.
في هذا المسار الجماهيري الصاعد، الذي أثبت جدواه وقدرته على حماية الأقصى حماية حقيقية جاء اقتحام 28 ليشكل انتكاسة، وهذا تحديدًا ما يفرض ضرورة التوقف عنده، فإذا كان الردع الجماهيري قادرًا على وضع حد للعدوان على الأقصى، وفرض التراجع على الاحتلال في كل المحطات السابقة، فلماذا لم يرتدع الاحتلال في 28 رمضان؟، لماذا تجرأ على المرابطين المعتكفين ونكّل بهم؟، لماذا فشلنا حيث اعتدنا النجاح؟
أولًا: عنصر الفشل الأبرز: معادلة العدد:
تتفق شهادات المعتكفين المرابطين على أن عدد المرابطين في وجه الاقتحام لم يتجاوز المئات، والتقديرات تضع العدد ما بين 600-800 مرابط، مع أن هناك تقديرات أكثر تشاؤمًا تتحدث عن 400، لقد شكل الحضور في الليلة السابقة (ليلة 27 رمضان التي ترجح بعض أقوال العلماء أنها ليلة القدر على وجه التعيين) نحو 400 ألف فلسطيني، وإذا ما علمنا أن عدد الفلسطينيين القادرين نظريًّا على الوصول إلى الأقصى في الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 1948م هو 4,6 مليون، فإن نسبة من حضروا فعلًا في تلك الليلة هي 9% منهم جميعًا، وهي نسبة مرتفعة جدًّا بمقياس أي قضية من القضايا تتحرك الجماهير لأجلها.
في المقابل لم يتمكن نداء المواصلة لليلة التالية للوقوف في وجه الاقتحام من جذب أكثر من 800 معتكفٍ في أحسن التقديرات، أكثر من نصفهم حضر لصلاة الفجر وبقي بعدها ولم يقضِ ليلته في الأقصى، نداء الدفاع عن الأقصى وصدّ الاقتحام تمكن من استبقاء اثنين من كل ألف معتكف وجدوا في الليلة السابقة، ويا لها من نسبة ضئيلة!، فلماذا؟
لعل محدودية الانتشار كانت سببًا بارزًا، إذ بادر شباب القدس إلى توزيع آلاف المنشورات على المصلين في الأقصى، وأطلقت الدعوات على الإنترنت بمبادرات شبابية، لكنها لم تجد هيئة مقدسية جامعة تتبناها، وبدت الأوقاف الإسلامية تتجنب بأي شكل تبني تلك الدعوة، وكذلك فعلت معظم القيادات الدينية في القدس، يا للأسف!، فكانت رسالة الدفاع عن الأقصى محدودة الانتشار للمهتمين من أهله الذين يتابعون شجونه.
ثانيًا: الوعي بالأقصى: رباط أم سياحة دينية؟
مفارقة الحضور الغامر ثم الانحسار المفاجئ عن الأقصى تكشف خللًا مهمًّا في وعينا بالأقصى، ووعي جماهير زواره من أهل الضفة الغربية تحديدًا، إذ رغم التهديد المعلن للأقصى صباح 28 رمضان بقي الإصرار على الزيارة التقليدية إلى الأقصى في ليلة 27 رمضان، لابد أن نتنبه هنا إلى أن الحرمان القسري من زيارة القدس والتغييب المشبوه لقضيتها وهمومها في وسائل الإعلام الفلسطينية الكبرى أنتجا وعيًا بالأقصى هو أقرب إلى السياحة الدينية: نزهة روحانية في مكان جميل لليلة من ليالي العام، بعيدًا عن التهديد الوجودي له، وبعيدًا عن فكرة الرباط، نحن أمام معضلة وعي، يقرأ: "سبحان الذي أسرى"، ويأبى مواصلة القراءة إلى أسفل الصفحة، حيث يرتبط الأقصى مباشرة بعلو بني إسرائيل، وبوعد الله القاطع بتحريره على يد عباده أولي البأس الشديد.
صحيح أن الدعوة كانت محدودة، لكن آلاف المنشورات والدعوات والفيديوهات والترويج بالكلمة الذي لا يقصّر أهل الأقصى وأحبابه في نشره لم ينجحا في سوى استبقاء مئاتٍ قليلة إلى جانب المئات القليلة الأخرى من رواد الأقصى الذين يعرفهم ويعرفونه، ما ينبغي أن نعترف به أيضًا، رغم أنه يزعج المقدسيين ويأبون الاعتراف به؛ أن تلبية نداء الأقصى كانت محدودة بين المقدسيين أنفسهم، فلو افترضنا أن كل المرابطين كانوا منهم –والواقع ليس كذلك- فنسبة الاستجابة نسبة إلى عدد المقدسيين ليست أفضل بكثير، فهي 2 من الألف، ولو أردنا القياس على المقدسيين من أهل البلدة القديمة الذين يسكن أبعدهم على مسافة 600 متر من الأقصى فقد كانت 2%، لو افترضنا جدلًا أن كل المرابطين كانوا منهم.
لا مفر من الاعتراف إذن أن أولوية العمل الأولى أمامنا هي نشر الوعي بالأقصى مقدسًا مهددًا يحميه الرباط، ونشر الوعي بمعادلة العدد وأثرها المهم في حمايته في مواجهة خط التثبيط والاستسلام، فردع المحتل ممكن، نعم، وقد أثبتته التجارب، ولابد من تعميم هذه التجربة حتى يتحول الأقصى إلى عنوان جامع للحراك الجماهير لا نكتفي بحمايته فقط، بل نبني الإرادة الجماهيرية انطلاقًا منه لنمضي بها إلى آفاق أرحب تفرض الانسحاب من الجغرافيا، حتى يتحول الأقصى إلى رمزٍ وراية جامعة، نصنع فيه تجربة النصر ونحملها إلى المستوى الوطني الأرحب، فحماية الأقصى قابلة لأن تصبح منصة انطلاقٍ لوعي وطني جديد بمعادلة قوة جديدة تفرض التراجع على المحتل، فإن نحن أحسنّا خوض معركته؛ فسيكون الأقصى حينها منصة عبورنا وخشبة خلاصنا نحو معادلة التحرير.
ثالثًا: محدودية المغامرة:
لقد رفع المحتل كلفة أي عملٍ مقاومٍ لشرطته وأجهزة قمعه، حتى لو كان رمي حجرٍ أو ألعاب نارية أو كرسي، ولا شك أن المعتكفين الذين حضروا في ذلك الصباح كانوا هم درع الأقصى نيابة عن أمة من مليار ونصف، ولعلهم كانوا يومها صفوة الله من عباده في صفوته من أرضه، وتحملوا وحدهم ثمن تنكيل الشرطة وعدوانها.
ما ينبغي أن ندركه جميعًا أن الردع الجماهيري ليس حالة ميكانيكية تلقائية، فهناك معادلة تحكم علاقة المحتل بالحشد الجماهيري المضاد له هي معادلة الخوف أساسًا: إما أن يكون هذا الحشد ضخمًا بالعدد؛ فيخشى المحتل ما يمكن أن يحصل في حال مواجهته، وإما أن يكون صغيرًا غنيًّا بالفدائيين المبادرين فيكوي المحتل بما يخسره فعلًا بالمواجهة، الأولى تتطلب وعيًا أكبر ويدفع فيها ثمن أقل، أما الثانية فيدفع فيها ثمن أكبر لغياب الوعي والحضور العددي.