رداء طبي معلق على الحائط؛ هو آخر ما تركه المسعف محمد صبحي الجديلي (36 عاما) الذي استشهد أول من أمس متأثرا بإصابته برصاصة معدنية إسرائيلية في 3 مايو/ أيار الماضي شرقي منطقة أبو صفية شمال قطاع غزة.
في ذلك اليوم كان الجديلي يرتدي الرداء نفسه حينما أظهر بطولة وتحديا كبيرين؛ لم يأبه لمصيره متجاوزا قنابل الغاز والرصاص المطاطي وكذلك الحي، كان همه إنقاذ حياة شاب أصيب بيده، ولم يدرك أنه هدف متنقل يترصده قناص إسرائيلي وضع رصاصته معدنية فوق أنف المسعف، فبدلا من أن يحمل المسعف المصاب لسيارة الاسعاف، حُمل الجديلي مصابا وظل أكثر من شهر يعاني من مضاعفات الإصابة حتى ارتقت روح شهيد الإنسانية.
في 23 مايو/ أيار الماضي احتفل محمد بميلاده السادس والثلاثين، برفقة أطفاله الأربعة. أوقد شمعة واحدة، وحينما سألته زوجته عن سبب الشمعة الواحدة، رد عليها مبتسماً: "لأنها بداية حياة جديدة لي"، أوقد أطفاله الشمعة على الجاتوه سعيدين بالاحتفال بذكرى ميلاد والدهم وتحسن حالته الصحية.
لكن الصورة السابقة تبدلت أمس؛ يجلس طفله عادل (10 سنوات) وإخوته الثلاثة الصغار راما (9 سنوات) وميرفت (5 سنوات) والرضيع زين سبعة أشهر بحضن والدتهم، ينتظرون إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمان والدهم المسعف، بعدما كانت الابتسامة في المشهد السابق تغطي وجوههم، رسمت دموعهم اليوم فصلا من فصول الوجع والألم والحسرة، فمن سيعوض غياب والدهم!؟ سؤال توحيه قطرات الدموع التي تنساب من عيونهم وكأنها ذرات التراب الأخيرة التي سيغسلون بها ذلك الجثمان.
عادت الأم وحيدة
"لو تسألون لما يرحلون لو تعملون لو تنظرون للشوق في تلك العيون" على وقع تلك الألحان على هاتفها المحمول كانت والدة المسعف الشهيد تواسي نفسها وهي تنظر في صورته بملابس الإسعاف وتقول: "ذهبت معه إلى الخليل كنت أتمنى أن أعود به لكن لم استطع اعادته حيا".
ما إن قالت والدته تلك الكلمات حتى سكت صوتها وواصلت دموعها رسم حكاية وجع لأم فقدت نجلها بجريمة حدثت أمام العالم أجمع، فما أصعب لغة العيون.
بينما كان الرضيع زين لا يعي أن والده رحل فبمجرد أن رأى صورته على شاشة هاتف أمه حتى فرد ذراعيه يناغشه ضاحكا ببراءة وكأنه يريد أن يدخل الشاشة ويحتضن والده من شدة فرحه منتظرا عودته، فكيف سيعرف هذا الطفل أن من ينتظره لن يعود مطلقاً؟
ترسم قسمات وجه زوجته منى (31 عاما) وهي تروي لصحيفة "فلسطين" لوحة من وجع لأم ستحمل هم تربية أربعة أطفال حرموا من والدهم، وهي تتجرع مرارة الفقد والفراق، قائلة وهي تحمل طفلها الرضيع الذي يواصل مناغشة صورة والده: "يعمل زوجي منذ 17 عاما ضابط اسعاف مع الهلال الأحمر الفلسطيني، شارك في اسعاف وإجلاء المصابين في الحروب الإسرائيلية السابقة على غزة (..) كانت روحه تخرج معه في كل مرة يذهب فيها لإسعاف المصابين، لا يهدأ بالي في كل مرة يخرج فيها إلا عندما يعود للمنزل، كانت نبضات قلبي تضطر خوفاً عليه نظرا لصعوبة الأحداث في غزة".
الجمعة الثالثة من مايو/ أيار انسلت أشعة الشمس الأولى للصباح، بدا اليوم هادئا، حتى غادر محمد منزله عصرا، واضعا قبلة على جبين أطفاله الأربعة؛ إلى شرق منطقة أبو صفية شمال القطاع لإسعاف المصابين بنيران الاحتلال خلال مشاركتهم في مسيرة العودة وكسر الحصار.
استهدفت قناصة الاحتلال المسعف الجديلي خلال محاولته إسعاف أحد المصابين، وأحدثت الرصاصة كسورا في أنفه وفكه مع غلاف العين وكسرا بجمجمة الرأس، جعلته يعاني من صعوبة في النطق والأكل والشرب، وأدت مضاعفات الإصابة إلى تدهور حالته الصحية طوال فترة مكوثه بمستشفى القدس بمدينة غزة، قبل أن يتم تحويله قبل أيام لمستشفى الهلال الأحمر بالخليل.
"25 يوما وهو يعاني من أثر الإصابة (..) لم نكن نعلم أن سقوطه كان بداية الرحيل عنا"، هذا ما قالته زوجته بصوت يلمؤه الحزن، وهي تستعيد ذكريات زوجها ومشهد إصابته، ما إن بدأت بالحديث حتى دغدغت مشاعر الفراق قلبها، ومعها قاطعت الدموع الحديث منذ بدايته.
تمالكت نفسها، مسحت دموعها التي لم تتوقف وكأنها غيمة حزن سكبت أحزانها على شكل زخات من قطرات الدمع، بدأت تقلب دفتر الذكريات التي يزينها الحنين قائلة: "قبل أيام احتفلنا بذكرى ميلاده، غادر لمستشفى الهلال الأحمر في الخليل وكان يأمل أن يعود معافى لكنه عاد جثة هامدة.. ربنا يصبرنا على فراقك يا محمد".
تحتسي زوجته جرعة من صمت أذابها ما تشعر به من ألم، تشير إلى أصغر أطفالها وتقول: "هذا الرضيع لم يأخذ حنان والده، وهؤلاء الأطفال لا أعرف كيف سيعيشون دون والدهم؛ حينما غادر للعلاج بالضفة وعد طفلته ميرفت كبقية إخوتها بأنه سيحضر لها لعبتها المفضلة وهدايا أخرى".
ألم ووعود
"كل يوم كان يتحمل الألم على أمل أن تنجح وعود التنسيق منذ بداية إصابته ويتم علاجه خارج القطاع، لكن حتى الاحتلال هنا أعاق إجراءات التحويل وعلاجه (..) كان همنا طيلة فترة علاجه بغزة ليس متابعة وضعه الصحي فحسب بل متابعة جهود تنسيق إخراجه للعلاج بالضفة لخوفنا على حياته" تقول زوجته والألم يعتصر قلبها.
"جبيلهم ملابس جميلة" يحدث محمد زوجته قبل عيد الفطر السعيد، وبعدها بيومين فاجأهم وحضر إلى المنزل ليمضي يوما سعيدا بينهم، ليزين فرحة أولاده به لكن تلك الفرحة لم تكتمل، بعدها بيوم تضاعفت حالة والدهم حتى فارق الحياة شهيدا.
مواقف كثيرة مرت على محمد ترك خلالها بصمة في اسعاف المصابين، شارك بالإسعاف وإجلاء المصابين في الحروب الثلاثة التي شنها الاحتلال على غزة، كان يطلق زملاؤه عليه لقب "الحوت" استحق هذا اللقب بشجاعته التي أظهرها، يتقدم لإنقاذ حياة المصابين دون تردد أو خوف.
في إحدى المرات أطلق الاحتلال على سيارته قذيفة مدفعية أثناء قيامه بواجبه الإنساني وتعطلت السيارة لكنه نجا مع رفاقه، ومرة أخرى أطلق عليه رصاصة استقرت بمسندة مقعد القيادة خلف رأسه، ونجا من الاستهداف كما نجا من محاولات كثيرة لاستهدافه خلال أداء واجبه في اسعاف المصابين بمسيرات العودة وكسر الحصار بإطلاق وقنابل الغاز عليه.
يلتفت طفله عادل بنظراته إلى جموع المعزين، لا يصدق أن والده رحل، يحبس دموعه التي لم يأذن لها أن تنفجر وتفيض بما داخلها من ألم، يا لها من مواقف أليمة حينما يكتوي القلب بألم الفراق، هذا الطفل الذي لم يدم هدوؤه طويلا فاض بما به من ألم مناديا على جموع المعزين: "يا ناس، أنا من اليوم اسمي محمد مش عادل (..) بدي تخلوني بالقبر جنب أبويا" وأخرج مسبحة من جيبه وسلمها لأحد المسعفين طالبا أن يدفنها مع جثة والده، مواقف الطفل أبكت جموع الحاضرين معه.
أين مضيت؟ وأين ذهبت؟ ومتى ستعود؟ وكيف سأضع سلما لأصل إليك إلى الجنة، من سيشرق على قلبي كل يوم؟ أتخيل هذا الحوار الذي حدث بين عادل وروحوالده حينما اقترب من رأسه وهو جثمان هامد محمول على الأكتاف خلال مراسم تشييعه التي شارك فيها عشرات سيارات الاسعاف ولفيف من المسعفين في تأكيد على أن رسالة الانسانية متواصلة.