لا تنبع المقاطعة الفلسطينية المعلنة مسبقاً، والمبرّرة تماماً، لورشة (!) البحرين، المزمع عقدها أواخر الشهر المقبل، من جذور الرفض الضاربة عميقاً في وجدان شعبٍ مُفعم بمشاعر الخذلان والظلم التاريخي، ولا يُعدّ هذا الموقف الوطني المجمع عليه خروجاً على قاعدة الاشتباك السياسي المعمول بها، على الأقل لدى الرسمية الفلسطينية، وإنما تنبع هذه المقاطعة الشاملة من مسألةٍ أكثر بساطةً وأشدّ بديهيةً، ألا وهي أن حفل العرس الماجن، والذي سيغص بكبار الضيوف، سيقام بدون وجود عروس، فما الداعي لوجود عريسٍ إذاً؟
وبالاسترسال أكثر في تخيّل مشهد العرس الغرائبي هذا، صبيحة يوم الزفّة، يمكن للمرء أن يتصور منظّم الحفل وراعيه، وهو صهر الرئيس دونالد ترامب، كأم العروس في ليلة الدُخلة، تروح وتجيء على غير هدى، في حركةٍ تنمّ عن حسٍّ ثقيلٍ بالقلق والتوتر، فيما سيدخل الضيوف الكرام إلى القاعة الفخمة، وهم في حالةٍ من الخجل والارتباك، يدارون أنفسهم كشهود زور، ويشيحون وجوههم عن المصوّرين، كونهم على معرفة تامة بأن وقائع العرس، إن لم نقل المأتم، ستجري بالضد من أصحاب الشأن، أهل الدم، الأب والأم والولد والبنت.
وإذا كان هذا هو حال الضيوف المرغمين على تلبية دعوةٍ تفوح منها رائحة الجبر والإكراه، وليس في وسعهم غير ممالأة العرّاب الذي يقدم عرضاً لا يمكن رفضه، فما بالك بحال المعزّب المحرج من استضافة مناسبةٍ مشؤومة، ألقيت على عاتقه من دون مشاورةٍ مسبقةٍ على الأرجح، ومضى بها بمجرد وصول إشعار علم وخبر إلى مقامه، وخصوصاً أن كتفيه الهشتين لا تقدران على حمل هذا الوزر الثقيل، كما أنه لا يستطيع تبرير قبوله ركوب هذا المركب الخشن، ناهيك بإثارة أعشاش الدبابير، واستمطار لعنات التاريخ الذي لا يرحم؟
بكلام آخر، لسنا أمام ورشةٍ ولا عرس، وإنما أمام لعبة روليت أميركية، كل أرقامها خاسرة، اسمها صفقة القرن. ونحن أيضاً في حضرة مقامر هاوٍ لا خبرة له، جاريد كوشنر، لديه فائض من القوة المستمدّة من أعطاف عمه، ووفرة من المال السهل، وتفويض بالسحب من رصيد غيره، إلا أن لديه مشكلة بنيوية مستعصية لا حل لها، ماثلة في الرهان على مبدأ القوة، والبناء من ثمّ على قاعدةٍ تأسيسيةٍ رخوة "السلام من أجل الاستثمار" باعتماد المسار الاقتصادي بديلاً من المسار السياسي، أي وضع العربة قبل الحصان، وتجريب حظّه بمجانيةٍ مفرطة.
ليست ورشة البحرين أول سحابة أميركية صفراء هطلت أمطاراً حمضية على رؤوس الفلسطينيين في عهد ترامب، وقد لا تكون الأخيرة، حتى إنه لم يعد لدى هؤلاء المستضعفين ما يخسرونه، إلا أنه في المقابل ليس لدى الأميركيين المدجّجين بالقوة والثقة بالنفس ما يستطيعون به إرغام صاحب حقٍّ لا يتقادم، بالتنازل عن حقه، الأمر الذي يجعلنا نرى من الآن نهاية هذه اللعبة العابثة، المحكومة بفشلٍ مسبق، ويسوّغ لنا كذلك تسميتها فقاعة، والقول إنها ولدت ميتةً، أو زوبعة في فنجان، فوق أنها دليل إثبات آخر على عدمية السياسة غير المتوازنة.
ولو كان في الوسع تقديم توصيةٍ لذوي الشأن، وقادة الرأي والمشتغلين في المجال العام، خصوصاً من الفلسطينيين، لقلنا لا داعي للهلع من عقابيل هذه الورشة، لا تشغلوا أنفسكم طويلاً بسخافة منطقها وتفاهة غاياتها، ولا تستهلكوا طاقاتكم في هجمات قدحٍ وذم، ومعلقات هجاءٍ ضد المستضيف المغلوب على أمره، أو المدعوين العرب الممسوكين من الأيدي التي توجعهم، فليس هناك من يطيب له الاشتراك في هذه الحفلة الماجنة، وحمل أوزار التفريط بالقدس والمسجد الأقصى، وإلحاق مثل هذا العار الأبدي به، وتلطيخ سمعة بلاده.
وأكثر من ذلك، من غير المستبعد ألا يتم انعقاد هذه الورشة في موعدها، لسببين جوهريين؛ أولهما فشل المراهنة الأميركية على تعويض غياب السلطة بحضور رجال أعمال فلسطينيين، أجمع كبارهم على مقاطعة الورشة، بل وندّدوا بها، وثانيهما ضعف المشاركات العربية والدولية، وعزوف الأوروبيين الظاهر، كممولين، عن تلبية الدعوة، وفي أحسن الأحوال الحضور ربما بمستوى تمثيلي هزيل.