لعلنا نلاحظ في هذه الأيام غرامًا عربيًا بشكلٍ يثير الاستهجان بـ(إسرائيل) والتماهي غير المحدود، وكأننا نشهد ولادة مرحلة جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي من الانتقال من الصراع والحفاظ على الهوية ومقدساتنا وقضية اللاجئين إلى الانقضاض على قضيتنا المحقة بمساعدة بعض الدول العربية، في ظل الفوضى الخلاقة التي ينشرها الكيان الإسرائيلي في منطقتنا العربية.
بات من المسلمات تعميق العلاقة بين الكيان المحتل والدول العربية، بالزيارات المتبادلة للشخصيات الرسمية وغير الرسمية بين الجانبين وكان آخرها وصول ثلاثة وفود عراقية إلى "تل أبيب" مطلع هذا العام، وهذا دليل قاطع على إصرار بعض الدول العربية على التطبيع، ولعله غابت عنها مشاهد الحروب والدمار والمجازر الصهيونية بحق شعبنا الفلسطيني طوال ٧١ عامًا، وغابت عن المشهد أيضًا المجازر التي ارتكبها الاحتلال في لبنان إلى الاعتداءات المستمرة على سوريا ومحاولة تفتيتها، إلى صفقة القرن وإعلان القدس عاصمة لكيان الاحتلال والانقضاض على حق العودة، لتُنسى إنجازات الكيان الإسرائيلي الدموية والإرهابية ليحل محلها التطبيع وبناء العلاقات معه، ففي السابق كانت لقاءات التطبيع العربية الإسرائيلية، رهينة التسريبات الإعلامية، لكنها اليوم خرجت بشكلٍ فاضحٍ من السر إلى العلن، إذ لم تعد هذه الأنظمة تخجل من أفعالها، بل تهرول مُقدمةً قرابين الولاء والطاعة للاحتلال، ففي الوقت الذي كان فيه قناصة الاحتلال يسفكون الدم الفلسطيني في غزة والضفة، كانت ذراعا سلطان عُمان مفتوحتين على مصراعيهما مُرحبتين برئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي نتنياهو وعقيلته في العاصمة مسقط. تلك الكوميديا السوداء لم تتوقف عند عاصمة من دون أخرى، فسعار التطبيع "نبح" في عدة عواصم عربية متنقلًا بين هذه العاصمة وجارتها، وغيرها ممن ما يزال "يستتر".
السؤال المهم، هل يمكن لهذه اللقاءات أن تحقق شيئًا من مصالح العرب والمسلمين، أم أنها لمصالح ضيقة وخاصة؟ هل يمكن لها أن تدفع باتجاه حقوق شعبنا الفلسطيني المسلوبة؟ أم أنها وبالتأكيد مجرد إنجاز كبير وآخر وهدية عربية مجانية أخرى لسياسات حكومة اليمين في الكيان الإسرائيلي والرافِض لفكرة وجود الفلسطينيين، وهل هذا التطبيع سيجعل وجه (إسرائيل) القبيح جميلًا؟
لقد أثارت تلك الزيارات تساؤلاتٍ لدى الكثيرين، حول علاقة التطبيع العربي مع (إسرائيل) بـ"صفقة القرن"، التي تأجل الإعلان عنها عدة مرات لأسباب مجهولة، وحول الأسباب التي جعلت التطبيع العربي مع (إسرائيل)، يخرج إلى العلن؟
خصوصًا وأن صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية قالت في وقت سابق إن تطبيع العلاقات بين (إسرائيل) والدول العربية يأتي في إطار التمهيد لصفقة القرن وخطة التسوية في الشرق الأوسط. ولكن ما لم تتطرق إليه يديعوت أحرونوت هو أن الجنوح العربي نحو (إسرائيل)، يكشف عن نيةٍ مُبيتة باتجاه التطبيع دون إتمام حلٍ للقضية الفلسطينية، أو التوصل إلى اتفاق مُرضٍ، يتبعه تطبيع كما نصت عليه المبادرة العربية عام 2002م، فالتطبيع العربي ليس جديدا، بل هو قائم منذ سنوات إلا أنه تأجل أو أخذ شكلا سريا، فهناك بعض الدول العربية تقيم علاقات شبه رسمية وفتحت مكتب تمثيل لها في (تل أبيب)، عدا عن اتفاقية السلام الموقعة بين (إسرائيل) من جهة، ومصر والأردن من جهة أخرى، وهو يُدلل على أن رغبة التطبيع قائمة منذ عقود، خاصة بعد توقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق "أوسلو".
إذًا تعليق التطبيع على شماعة صفقة القرن ليس صحيحا بالمطلق، خاصة وأنها ما زالت حبيسة الأدراج، ولم تتضح بنودها حتى اللحظة، بدليل تصريحات رئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي، حول وجود صواريخ باليستية في غزة موجهة إلى دول الخليج، وكأنه يريد أن يظهر أن أعداء العرب هم الفلسطينيون وليست (إسرائيل)، هل هذا صحيح، أم أنه محض افتراء وكذب وتضليل؟!
الحقيقة أن هناك أسبابا خاصة تجعل من التطبيع العربي مع (إسرائيل) أمرا ضروريا يجب الأخذ بها في الحسبان وهي:
أولا، حالة الصراع والعداء التي تشهدها المنطقة، وما أفرزته من توجه لدى بعض الدول العربية نحو إنشاء حالة تحالف مع (إسرائيل) من أجل تقوية موقفها في مواجهة ما تراه تهديدًا لأمنها وحماية أنظمتها المهلهلة، بمعنى أن لغة المصالح قد تكون مفسرةً لنهج التطبيع.
ثانيا، أن التطبيع العربي مع (إسرائيل) بسبب الخوف من أمريكا، والضغط المهول الذي تمارسه الولايات المتحدة على الأنظمة العربية من أجل التطبيع.
ثالثا، استطاعت (إسرائيل) أن تُسوّق نفسها لدى الأنظمة العربية وتحديدًا الخليجية منها، بأنها ستكون صمام الأمان من التحدي الإيراني.
وبالتالي، فإن الكثير من الأنظمة العربية، ظنت بأنها من خلال التطبيع، تستطيع أن تحتمي بـ(إسرائيل) من إيران، خاصة في ظل العلاقات الأمريكية الوطيدة مع (إسرائيل).
لا أعلم من أين أتى علاوي بهذه الافتراءات والأكاذيب التي ما هي إلا مسعى منه لتشويه صورة النضال الفلسطيني وشيطنة غزة وأهلها المحاصرين لأكثر من عقد حيث الجوع والفقر ونيسهم، فما ذنبهم كي يتهموا بهذا الاتهام الباطل؟ ربما كان الأجدر أن يدافع عنهم لرفع الظلم والجور عنهم بدلًا من زجهم في مهزلة التطبيع لشيء في نفس يعقوب أراده.. وإذا لم يكن يعرف أين وجهة صواريخ غزة فعليه الرجوع للمصدر؟
فالواضح أن التطبيع العربي على المستوى الشخصي والرسمي وهرولتها سرًّا وعلانية دون خجل، وتُعدّهُ أمرًا عاديًا، معناه أنها أدارت الظهر للقضية الفلسطينية معتبرةً أن الفلسطينيين هم السبب وراء تأخر التطبيع، وأن الحل العادل للقضية الفلسطينية لم يعد شرطًا مسبقًا لإقامة علاقات سياسية بين العرب و(إسرائيل)، ما يعني تراجع أهمية وأولوية القضية لدى الأنظمة العربية، على الأقل في هذه المرحلة.