في الصراع القائم مع الاحتلال نشهد جولات ممتدة من القتال بوسائل وأدوات مختلفة تفرضها طبيعة المرحلة، فبالرغم من تعاظم التحديات وازدياد جرائم العدو الإسرائيلي، وتآكل مساحات كافية من الوطن، وترهل المواقف السياسية الفلسطينية، وانسداد أفق الحلول في المدى الراهن والمنظور، وسقوط أوهام السلام، الذي رافقته هرولات نحو طوق نجاة في باخرة تغرق، في ظل تشظي أسباب القوة الفلسطينية، وتصدع جدر البيت الفلسطيني الذي أصبح بلا سقف، تعتريه وتتقاذفه أمواج العاصفة وتحيطه به زلازل متلاحقة، وقد أصبح مكشوفاً أمام دوائر الاستهداف، حتى تسلل العجز واليأس إلى بعض القلوب، وبات فريق يؤمن بأن لا حل مع هذا الاحتلال سوى الانحناء أمام العاصفة، والرضوخ للإملاءات والشروط.
لكن على ضفة النهر لا تزال السهام ترسل بريقها باستمرار غير آبهة بالمخاوف ولا تلتفت للأوهام، يحيطها الإيمان بحتمية الصراع وصوابية منهج المواجهة، وقد ساد لديها اعتقاد بأن اشتداد المواجهة يعكس حجم الصمود، وأن الساعة التي تليها فيها عتبات فخر تراكم النقاط وتزيد الخطى وتقرّب المسافات لملحمة كبرى يصاغ فيها بيان التحرير.
إن الورود التي تفتحت وتسللت من بين أعواد الشوك لم ترضخ لواقع ولم تستسلم لمنطق، لكنها انطلقت في الفضاء تحمل الأمل وتعانق وجه الشمس، فالحسابات الدقيقة تفضي إلى نتائج ثابتة غير قابلة للتأويل، لكن إذا ما كانت المعطيات متغيرة وغير مستقرة فإنه لا ضمانات لثبات النتائج وهذا ما يمكن الاستفادة منه في استغلال الأسباب والمعطيات واقتناص الفرص وصولاً إلى القدر الذي نسعى إليه من إيقاع الأذى وتثبيت حالة الردع وإلحاق الضرر بالخصم وتركه ينزف.
مع مراكمة كل الأدوات والوسائل التي يمكن أن تحقق لنا قدراً غير القدر الذي فرض علينا، فليس المقصود هو تحرير الأرض كاملة في إحدى الجولات كي يحسب لنا النصر ويصفق لنا الجميع وترفع الرايات، ولكن أن لا نحيد عن الهدف وأن تتجمع قوانا في مركزية الصراع وأن لا تطيش السهام، وأن تسلم الخطوة الأخرى، وأن نتحرك في جولة بعد أخرى إلى ما نصبو إليه، فنحن نضع خطوطاً والعدو يحاول اختراقها، ونفرض واقعاً قد يتجاوزه العدو، لكنه يدرك تماماً أن مراهنته على فرض سياسته وحرصه على تحقيق أهدافه تتبخر في كل جولة يخوضها مع المقاومة، فلا حديث عن نظريات الردع، والتفوق الأحادي، وأسطورة الجيش الذي لا يقهر، والقصف والعدوان دون رد، وجولات الحرب البرية أصبحت محفوفة بالمخاطر، وأرقام القتلى وشبح الاختطاف يلجم خطط العدو عن التمدد في مسرح العمليات.
فعلاً أصبحت غزة كابوسا مقلقا يرفض الانحناء ويلوّح بالمطرقة إذا ما حشر في الزاوية، فإن أخطر مواجهة تكون حين تذهب للقتال وتصاحبك نية اللاعودة فلم يعد لديك ما تخسره لذلك ستقاتل بشراسة دون أن تنظر للخلف بعكس قوات العدو التي تدخل مترددة وتتحرك وفق ضوابط تتفادى فيها الضرر والخسارة.
وفى الختام: لا تُحمّلوا المقاومة أكثر من طاقتها ولا تتعجلوا قطف الثمار، والتحرير لا تجلبه جولة، والظروف أقوى من الجميع، والنزيف لدى العدو باقٍ وكل جولة تزداد قسوة بعد الأخرى ولا تزال يد الفلسطيني هي العليا، فالحقوق أقوى من روايات الخداع، والدماء أوفَى الطرق وأصدقها في ميدان المواجهة، فالعدو يتراجع وينكسر مرة بعد الأخرى ولا مكان في الصفوف للحديث عن التخلي والاستسلام.