العدوان الإسرائيلي الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة لثلاثة أيام متواصلة والذي أدى إلى استشهاد وإصابة أعداد من المواطنين بينهم أطفال ونساء إلى جانب الدمار الذي خلّفه جراء قصفه للمنازل، ليس الأول ولن يكون الأخير في إطار سياسة الاحتلال الرامية إلى تركيع الشعب الفلسطيني، فقوات الاحتلال هي التي بدأت العدوان على مسيرات العودة السلمية يوم الجمعة وبالتالي فهي التي تتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأمور من اعتداءات مستمرة منذ ثلاثة أيام متواصلة ليل نهار وإن من واجب المجتمع الدولي وفي المقدمة الأمم المتحدة تحميل دولة الاحتلال المسؤولية وليس الجانب الفلسطيني الذي يدافع عن القطاع ويتصدى للعدوان الذي تمارسه دولة تمتلك كافة أنواع الأسلحة بل إن ترسانتها العسكرية تفوق العديد من دول العالم والتي تساندها وتدعمها بذلك الولايات المتحدة الأميركية التي تتحدى إدارتها العالم في حزمة القوانين والمعاهدات والأعراف الدولية ضاربة هي ودولة الاحتلال بعرض الحائط بكل هذه القرارات والمعاهدات التي تحرم قصف منازل المواطنين واستهدافهم في عقر دورهم.
غير أن نتنياهو -ورغم كل شيء- يبدو راغبا في الحفاظ على سياسة التصعيد المنضبط، أو التلويح بالحرب دون المخاطرة بخوضها في النهاية، فكان يعتقد أن شن عملية عسكرية على غزة قبيل الانتخابات ربما يأتي بنتائج عكسية ويفتح أبواب الجحيم على نتنياهو إذا ما اقترنت بخسائر بشرية في صفوف الاحتلال، خاصة أنها ستأتي مع وابل من الصواريخ التي يكرهها نتنياهو كثيرا لأنها تصيب شعبيته في المقام الأول، وهو لا يفضل ذلك وحاول خداع ناخبه بتهدئة وهمية مع غزة لاستعادة شعبيته المفقودة والفوز بالانتخابات، كونه رجل طماع لا يرغب في شيء قدر رغبته في البقاء في منصبه لأطول فترة ممكنة، ليتحول إلى ملك متوج لـ(إسرائيل) كما يحب أنصاره أن يطلقوا عليه أحيانا، لكنه أرغم على افتعال تصعيدا جديدا مع غزة للهروب من واقع يلاحقه ويقض مضجعه، ففي ظل تصاعد الاتهامات بالفساد ضده داخليا، حيث لم يكن أمامه من خيار _في سبيل استرداد ثقة العامة في (إسرائيل)_ سوى التلويح بورقة الأمن التي يجيدها جيدا والتهديد في كل مرة بحرب جديدة ضد قطاع غزة المحاصر.
لعل أهم شيء خرجنا به من العدوان الاخير أن زمن الخضوع والخوف ودخول بيت الطاعة قد ولى فقد انتصرت غزة حين تخلى عنها العرب، وسيدفع العرب فاتورة الحرب ضد غزة، لا اقصد فاتورة تكاليفها، فالاحتلال هو من تكبل وغرق في تكاليفها وما ترتب عليها من خسائر اقتصادية وتجارية وسياحية وغيرها، حتى لو كانت بعض الجهات في المنطقة متورطة في تكاليفها، لكن ما قصدته هنا أن العرب سيدفعون الفاتورة من كرامتهم ووجودهم ومستقبلهم، بل من صميم أمنهم الوطني والقومي على السواء، لطالما تخلوا عن واجبهم الديني والقومي والأخلاقي تجاه أبناء جلدتهم وأجدادهم، ولطالما هاجس الخوف والرهبة يضرب قلوبهم وعقولهم من آثار الهزائم والنكبات والنكسات التي منوا بها منذ تأسيس الكيان ويتخيلونه بالوحش الضاري، لكن الصورة التي رسمتها لهم غزة اليوم أثبتت أن الكيان خيال من الرماد.
وفي المقابل ان المحزن مآل الأمة العربية التي انهزمت على مستوى الحكومات والقيادات، رأينا أبطال المقاومة الفلسطينية يواصلون الدفاع عن الشعب المحاصر لا يهمهم لومة لائم ممن راهنوا على ضعفهم واستسلامهم وتسليمهم لأسلحتهم من أول النزال، ورأينا الحكومات العربية والإسلامية لا تراوح مواقفها المخزية الصامتة والجبانة والمتخاذلة، لقد انتصر المقاوم الفلسطيني الوحيد في أرض المعركة أمام آلة الدمار الصهيونية، والصمت العربي والإسلامي المطبق على المستوى الرسمي ظل هو الموقف الأوحد للعرب والمسلمين، والعجيب أن أصوات العالم الحر _من غير العرب_ هي التي هبت لتعلي صرخاتها في وجه العدوان الصهيوني على غزة على رأسهم دول أمريكا اللاتينية ودول أوروبية وأخرى آسيوية وأفريقية.
بكلّ فخر واعتزاز نقول: إن غزة المقاومة انتصرت في أول أيام رمضان التي تكاثفت في ملحمة بطولية قل نظيرها، وحقّقت ما فشلت الجيوش العربية جمعاء في تحقيقه على امتداد تاريخها المجلل بالهزائم والمخازي أمام جيش الاحتلال الإسرائيلي. أجل لقد انتصر الحق بفئة قليلة على الباطل المدجج بالسلاح والفتك والمعونات والجيوش الإمبريالية الطاغية. انتصرت غزة وارغمت نتنياهو وجيشه قبول شروطها ومطالبها مقابل وقف القتال، وصدق الله وعده إذ قال في محكم تنزيله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخافُونَ أَن يَتَخطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. (الأنفال:26).
صحيح أن الحرب وضعت أوزارها، فقد توصّلت فصائل فلسطينية و(إسرائيل) بوساطة مصرية إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، يلتزم الاحتلال في ضوئه بتنفيذ التفاهمات السابقة المتعلقة بتوسيع مساحة الصيد، واستكمال تحسين الكهرباء والوقود، ودخول البضائع وخروجها، لكن الكل يدرك أن العدوان الإسرائيلي لم يتوقف وقد يستمر لفترة طويلة لطالما لم يحقق أهدافه المرجوة بسبب صمود غزة الاسطوري، وفي المقابل ان كل ما يقال عن التهدئة فهي هشة لطالما لم يلتزم الاحتلال ببنودها ويسعى لخرابها ليفتعل في كل مرة عدوانا جديدا تحت مبررات واكاذيب مختلقة فتدور الدائرة عليه وتدبيره في تدميره ويكتب النصر للمستضعفين. لكن السؤال المهم، كيف تتصدى لأي عدوان قادم؟! فكما يقول المثل اليد لا تصفق لوحدها، لذا نأمل أن يكلل هذا النصر برص الصفوف وانهاء الانقسام لتتوحد الضفة مع غزة أمام العدوان المتواصل والمتصاعد فليس أمام شعبنا وقيادته سوى التوحد في مواجهة ذلك لان الوحدة هي الطريق نحو الانتصار على كل المؤامرات التصفوية وفي مقدمتها مؤامرة ما يسمى صفقة القرن التي تستهدف حقوق شعبنا الوطنية لصالح دولة الاحتلال.