هاتف خالد الحصري يرن، ظهر على شاشته عبارة "رقم خاص"، رد على المتصل ليجد من يقول له: "معك المخابرات الإسرائيلية".. خشي أن تكون مزحة من صديقٍ ما، ففتح السماعة الخارجية ليسمعه أبناء حيه يضيف: "معك عشر دقائق لإبلاغ أهل منطقتك أننا سنقصف بناية الخزندار".
تزامن وجود المواطن الحصري خلال الاتصال مع وجوده في متجر المواد الغذائية في حي الرمال وسط مدينة غزة، وقد تحرك بسرعة كبيرة يدعو جيرانه إلى إخلاء منازلهم، ليجد نفسه كعائلات أخرى تواصلت معها مخابرات الاحتلال لقصف المنطقة.
خرج الأطفال والنساء والرجال من بيوتهم مهرولين إلى أبعد منطقة عن المكان المقصود، دون أن يستطيع أي منهم أخذ أي شيء من بيته، وبينما هم كذلك، سقط الصاروخ التدميري الأول من طائرات الاستطلاع "المسيَّرة".
في أثناء ذلك كان أحد المواطنين يركض من بعيد يسابق الزمن لإخلاء زوجته وأطفاله من بيت مجاورٍ للبناية المراد قصفها، يتساءل بصوت يرتجف: "أي عمارة ستقصف؟".
سقط الصاروخ التدميري الثاني من طائرات الاستطلاع، ومعه حمل المواطن الحصري أطفاله الثلاثة مهرولًا للابتعاد عن المكان، وما هي إلا لحظات حتى شاهد الجميع البناية المكونة من عدة طوابق وهي تتهاوى وتسوَّى بالأرض، بعد قصفها بعدة صواريخ من طائرات الاحتلال الحربية.
عم الخوف والرعب المكان لدقائق، حتى استند الحصري إلى عمود حديدي وهو يمعن النظر بمحله التجاري الذي كان سيفتتحه في أول أيام شهر رمضان المبارك.
يروي لصحيفة "فلسطين" لحظات القصف الأولى: "كان المشهد صعبًا ومرعبًا، كل الدنيا تهون ولا نرى الخوف في عيون أطفالنا، تشبث أطفالي بي وحملتهم وخرجت من المكان بعد أن أبلغت الجيران".
"فلورز".. اسم مشروع ملابس الأطفال الذي كان الحصري يستعد ويرتب مراسم افتتاحه، تختلط ابتسامته بالحزن وهو يحدق النظر بمحله الذي لم يظهر منه سوى باب حديدي أسفل تلك البناية المدمرة، ليضيف: "جهزت المشروع بأعلى مستوى من ديكور وملابس، وقد كلفني آلاف الدولارات، وكنت أنتظر موسم افتتاحه إلا أن صواريخ الاحتلال الإجرامية كانت أسرع".
لقمة العيش
أما الشاب صبحي الخزندار، فقد وقف على ركام بنايته ومحله المدمر، وقد عاد بذاكرته للوراء قليلًا حينما كان يصفف البضائع الجديدة التي وصلته استعدادًا لاستقبال شهر رمضان، ومن ثم عيد الفطر.
وأعاد الخزندار سرد المشهد الذي غير معالم المنطقة، وهو يصفف البضائع الجديدة من ملابس وأحذية، كما أصحاب المحلات المجاورة له، في ساعات المساء.
ينادي جاره "أبو السعيد" ليقول له: "إلك عندي مصاري بدي أعطيك إياهم"، حتى بدأت الأصوات في الخارج تعلو بعبارة "بدهم يضربوا عمارة الخزندار"، يضيف: "لم أصدق أن عمارتنا ستقصف".
جلس الخزندار على أطلال بيته المدمر يبكي حاله: "كنا نحضر لاستقبال شهر رمضان وننتظر هلاله كباقي العالم، نرتب البضائع التي وصلتنا أول من أمس، غادرنا مع صعوبة الموقف بأجسادنا دون أي شيء، وأقل تاجر منا خسر بضائع بعشرات آلاف الدولارات هي لقمة عيشنا".
يتساءل الخزندار: "هذه البناية تضم نحو 19 شقة سكنية ومؤسسات تعليمية وثقافية وخيرية، ما تبريرات الاحتلال لقصفها".
بدا جسده منهكًا من التعب والحزن وهو يشير بيديه نحو أكوام الحجارة قائلًا: "أكبر دليل على أن بنايتنا مدنية، هذا الأثاث والملابس والستائر وخزانات المياه، لا يوجد شيء يستدعي القصف إلا أن الاحتلال أرد إغراق هذه المدينة بالظلام".
يقلب كفيه، وصوته اختفى بين ثنايا الوجع والقهر: "جهزت شقتي منذ وقت قريب، وكنت أستعد للزفاف، وقد جهزت أيضًا مشروعي وطورته، وجلبت بضائع جديدة لشهر رمضان، لكن كل شيء دُمِّر.. تبخر الحلم".
واضطر الخزندار كما أصحاب المحال التجارية، للاقتراض من البنوك لتلبية احتياجاتهم المالية لتجارتهم ولقمة عيشهم، إلا أن الاحتلال كما عادته دمر أحلام المواطنين.
صمت الخزندار قليلًا ورفع رأسه ثم قال: "سيعود المشروع أفضل من الأول، لم يحطمنا ما حدث، بالإرادة كل شيء سيُعوَّض".
الناجي الوحيد
الشاب محمد جرادة (22 عامًا) كان ينتظر رفع أذان العشاء لإغلاق محله التجاري والعودة للبيت. يروي ما عايشه من أمام محله المختلط برماد البناية المدمرة: "كنت أصفف الملابس الجديدة، بعدما وصلتني نحو 100 كرتونة ملابس أطفال جديدة لا تقل قيمتها عن 120 ألف دولار".
وما إن خرج أهل الحي وبدأت الأصوات تتعالى بالخروج من المنازل، ترك جرادة محله مفتوحًا، وابتعد مسافة 50 مترًا، وهو يتحسر على رؤية البضائع أمامه ولا يستطيع إخراجها من بين أنياب صواريخ الاحتلال.
ما استطاع جرادة النجاة به هو حاسوبه الصغير، الذي يوثق فيه كل معاملاته التجارية وأمواله، وقف وهو يحمله ومعه الخزندار والحصري يشاهدون أحلامهم المدمرة أمام عيونهم.