فلسطين أون لاين

"خيار عاصف عند مفترق الطرق"

...
بقلم / د.زهرة خدرج

إلى بلاد تشرق عليها الشمس ما بين أربعة إلى ستة ساعاتٍ شتاءً، ويظلم عليها الليل أربعة إلى ستة ساعاتٍ صيفًا، ركب زيد رحلته مسافرًا لدراسة الطب. أكثر والديه من الدعاء له وتوصيته، بصعوبة أمسك دموعه، "نريدك أن تبقى على ما ربيناك عليه، وأن تثبت على دينك وأخلاقك، وأن تحقق الهدف الذي خرجت لأجله، وأن تبقي رؤوسنا مرفوعة عاليًا.. لا تلتفت للمحرمات حتى لا تقع فيها، فالنظر هو البوابة التي يلج الشيطان منها للإنسان، سيبذل الشيطان جهده لإغوائك، فإن وقعت في الحرام مرة، لن يكون بمقدورك أن تنهض مرة أخرى، فالحذر الحذر.. قلوبنا معك، وسندعو الله لك دائمًا، ولكن كن مع الله، حتى يكون الله معك..", ضحك بملء فيه، فما الداعي لهذا القلق وهذه الوصايا؟ فهو أبدًا لن يخيب آمالهم.

ألقى النظرة الأخيرة على وطنه الحبيب من نافذة الطائرة بعد أن ارتفعت في الجو، حيث غدت البيوت كعلب كبريت صغيرة، والشوارع كخيوط سوداء رفيعة، ثم أخذ يغوص في أروقة ذاكرته مستعرضًا رصيد ذكرياته لسنوات عمره الثماني عشرة التي احتفظت بتفاصيل حياته حلوها ومرها.

حطت به الطائرة في بقعة جديدة من الأرض لم يعرفها.. أحس بها باردة وكئيبة، وأبهرته المباني والأضواء والصخب، وأربكه عُري الفتيات في كل مكان، وأزكى الصراع داخله وزاد إلى كآبته همًا وغمًا وحزنًا، خاصة لشابٍ ملتزمٍ مثله، وأن العلاقات الحميمية هي الشيء السائد والمقبول في تلك البلاد، وغير ذلك هو الشاذ، فآثر الهروب إلى دروسه والهدف الذي جاء من أجله، مرت السنة الأولى بصعوبة شديدة، شعر بها عمره كله، كانت الوحدة والانشغال التام وقلة النوم، أهم سمات تلك السنة التي ألقت بظلالها الكئيبة على نفسه.

"مصطفى" ابن بلده ورفيقه في غربته، الذي سبقه إلى هذا البلد بأعوام ثلاثة، سخر من عزلة زيد، وإصراره على عدم الاندماج بالمجتمع، وأغراه بالمتعة والترفيه وتجديد الطاقات ليكون بمقدوره الاستمرار في دربه الشاق الذي اختاره لنفسه، وأكد له بأنه آجلًا أم عاجلًا سينخرط في حياة هذه البلاد، فهو وجميع الشباب الآخرين كانوا مثله في البداية ثم تغيروا بعد ذلك تمامًا.

في السنة الأولى كان القرآن أنيس قلبه والصلاة غذاء روحه، إلا أن ذلك لم يدم، فقد أخذ يهمل القرآن، ويفوِّت الصلوات، ويعد نفسه كل يوم ويؤكد لها بأنه سيعود لسابق عهده مع الصلاة والالتزام بعد أن تقل أعباء دراسته التي استنفدت وقته وجهده. استبد به الشوق لأهله ووطنه، حتى أصبح يرى والديه في المنام دائمًا، فيصحو عليهما يناديانه ويدعوان الله له. أصابته حالات كثيرة من الإحباط والحزن والضغط النفسي، حتى سيطرت عليه فكرة الرجوع من حيث أتى، كان يشكو همَّه لمصطفى، إلا أن رفيقه طمأنه بأنه سيتأقلم مع المجتمع لدرجة قد تنسيه أهله وبلده، ولهذا ألح عليه كثيرًا بأن يرافقه في السهر مع الشلة عساه يرتاح نفسيًا، ومع إلحاحه الشديد والمتكرر وافق بشرط أن تكون المرة الأولى والأخيرة، ويتركه وشأنه بعدها دون إلحاح وضغط.

وفي الملهى، وجد نفسه غريبًا في جو صاخب جدًا شعر فيه بالقرف والاحتقار وعلا وخز ضميره منتفضًا ثائرًا على وجوده في مثل هذا المكان، تحفز للهروب، أحس مصطفى بمشاعره، فغاب قليلًا ليعود برفقة فتاة فائقة الجمال عرفها بصديقه زيد وأخبرها بأنه متفوق دراسيًا ولا صديقات له، وهمس في أذنها طالبًا إدخال السرور إلى قلب رفيقه، اقتربت منه، التصقت به، حاولت إغواءه، ابتعد عنها ولم يستجب، فسحبته من يده لمراقصتها، قاومها رافضًا ثم أطلق ساقيه للريح مغادرًا المكان، يضج داخله بمشاعر الاحتقار لذاته، والإحساس بالذنب.

لم ينتهِ الصراع داخله، بل دخل في مرحلة جديدة منه، فما بين تكرار السهر مع مصطفى ورفاقه، وإبداء مرونة تليق بالموقف، ثم المضي قدمًا لتلبية الرغبات التي تلح عليه بإطناب، خاصة بعد أن أتاح لها متنفسًا لم تعهده من قبل، في ظل غربة أحكمت قبضتها على جسده وروحه وعقله وقلبه، وبين أن يسلك الدرب الآخر، فيبتعد عنها ولا يعود لها نهائيًا.. بات مترددًا بعنف، متوترًا ومضطربًا وقلقًا إلى درجة أثرت على تركيزه وأدائه الدراسي، رسب في السنة الثانية.. قرَّع نفسه، احتقرها، ثم عاد ليؤكد لنفسه أنه يحتاج لقرار صلب ينقذه من العذاب الذي يسوط روحه.. لم يكن في يوم شخصًا مستهترًا ضائعًا يعيش لهدف لحظي، فكيف له أن يسمح الآن لنفسه بأن تتمادى وتغمسه في الشهوات، وتتركه ليحترق بأوارها الذي سيزداد استعارًا يومًا بعد آخر؟.

وجد نفسه يسير إلى مُصلاه، وكأن قوة تجذبه إليه.. ركع، سجد، استوى، ثم رفع يديه مناديًا خالقه.. اللهم إني اسألك إيمانًا دائمًا، وقلبًا خاشعًا، وأسألك علمًا نافعًا، وأسألك يقينًا صادقًا، وأسألك دينًا قيمًا، وأسألك العافية في كل بلية، وأسألك تمام العافية. اللهم إليك مددت يدي، وفيما عندك عظمت رغبتي؛ فاقبل توبتي، وارحم ضعف قوتي، واغفر خطيئتي، واقبل معذرتي، واجعل لي من كل خير نصيبًا، وإلى كل خير سبيلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

فتح كتاب الله فإذا به بآية "أفحسب الذين آمنوا أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون...".

شعر بطمأنينة لم يعهدها مُذ قَدِم إلى هذه البلاد، انطلق يتصل بوالديه وهو يقول في نفسه: أعدكما أن أكون عند حُسن ظنكما.