أصبحت استراتيجية كيان الاحتلال الإسرائيلي اليوم ضد فلسطينيي غزة أكثر وضوحًا من أي يوم مضى منذ الانسحاب من القطاع الذي أراد المحتل الإسرائيلي أن يخرج من تبعات احتلاله له مع بقاء الوضع الحصاري عليه، وما يتبع ذلك من أخذ أكثر من مليون ونصف المليون من الفلسطينيين أسرى لعربدته الإرهابية، خاصة مع تغذية الانقسام الفلسطيني، ورفض أي محاولة للصلح تفضي لحلول فلسطينية توافقية. ولعل هذا يرتبط بوضوح شديد مع مواعيد العدوان على غزة، فالقطاع كان ولا يزال خيار كيان الاحتلال الإسرائيلي الأمثل إذا أراد تجربة نظام أميركي قادم، وأراد معرفة إلى أي مدى سيتساهل معه، كما أن العدوان على غزة دائمًا ما يأتي للتغطية على حدث جلل يخطط له كيان الاحتلال، بالإضافة إلى كون الاعتداء إحدى أدواته في حربه النفسية التي يشنها دومًا لتخويف الشعب الفلسطيني، ناهيك عن أن الاعتداء قد يكون ورقة ضغط في مفاوضات الكيان الغاصب مع بعض الجهات العربية، سواء المعلنة علاقاتها معه أو السرية، فيكون تبييض وجه هؤلاء عبر وقف العدوان، ورقة تمنع الكيان الغاصب من دفع استحقاقات تلك الاتفاقات المريبة.
ولا يختلف الحال مع العدوان الاحتلالي الأخير على قطاع غزة، ومحاولة استفزاز المقاومة لاتخاذ إجراء عسكري، في موعد يريده الاحتلال، ويسعى إليه، خاصة إذا وضعنا في الحسبان أن الاحتلال يسعى في الضفة إلى استنساخ التجربة الغزاوية على شكل مصغر، حيث يهدف بمخططاته الخبيثة إلى تقطيع أواصر الضفة، وتحويل مدنها إلى كانتونات منفصلة، بعد شرعنة البؤر السرطانية، وضم مستوطنات الضفة الكبرى إلى القدس المحتلة، حيث من المنتظر أن يكون حل السلطة الفلسطينية ردًّا على تلك الممارسات، أو على الأقل خسارة التنسيق الأمني، الذي قد يخلق قوى مقاومة في حضن دولة الاحتلال في الضفة، يستطيع الاحتلال التعامل معها وفق آخر معاركه التي يخطط لها مع القطاع، والذي يسعى من ورائها إلى أقصى إضعاف ممكن للمقاومة في قطاع غزة، حتى لا تكون عونًا لمثيلاتها في الضفة، خاصة مع تلك الرغبة الظاهرة لدى الفلسطينيين في المقاومة بأقل الإمكانات والتي نراها بعمليات الدهس والطعن التي صحبت الهبة الحالية.
ويدرك كل متابع للشأن الفلسطيني ومهموم بالقضية العربية المركزية، أن عدوانًا جديدًا على قطاع غزة يحاك في ظلام كيان الجور والظلم والاحتلال، وأن الأجواء التي يعيشها القطاع هذه الأيام تُشبه تمامًا أجواء حرب عام 2014، من تصعيد على الحدود واتهامات وتهويل من قدرات المقاومة، وأن الحرب على قطاع غزة مسألة وقت، فبجانب الأسباب التي ذكرت عن أهداف كيان الاحتلال من الحرب والعدوان الجديد، تعمل أيضًا الحكومة الإسرائيلية المتطرفة على إسكات أي صوت من الداخل يعارض توجهاتها، عبر خلق حالة حرب، يكون فيها مجتمع كيان الاحتلال رهينة حالة الخوف من قدرات المقاومة التي يسردها إعلام الاحتلال، والدعوات إلى التخلص منها التي تجد آذانًا مصغية لكيان يمثل إرهابيوه ومتطرفوه النسبة الأكبر بين سكانه، ما يفتح المجال لمزيد من الخطوات الأحادية للاحتلال على سكان الضفة والقدس المحتلتين، والأخطر هو تلك خطوات التهويد التي ظهرت جلية باقتلاع عرب 48 من أراضيهم، ليكونوا جزءًا من صفقة رضوخ يخطط لها الاحتلال للتبادل مع المستوطنات الكبيرة بالضفة.
إن اختيار كيان الاحتلال الإسرائيلي لهذا التوقيت لممارسة أكبر قدر من العدوان والاستفزاز والتهويد والاستيطان، والسير بقوة مع مخططاته كافة على الأصعدة كافة، ربما يأتي من يقينه بضمان سيطرته واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة على الإدارة الأمريكية الجديدة، التي خرجت منها وعود تصب جميعها في حماية الاحتلال والإرهاب الإسرائيليين، والتي أصبح في طاقمها الرئاسي من هو أشد تطرفًا وتعصبًا لكيان الاحتلال الإسرائيلي من نتنياهو ذاته، إضافة إلى إدراك الاحتلال أن الوضع العربي الراهنن جعل معسكر المقاومة مشغولًا بإنقاذ الذات في سوريا والعراق ولبنان، وغيرها من الأقطار العربية، كما أن حركة حماس التيي تقود المقاومة في غزة تعاني من أزمة في التحالفات وأزمة تمويل، وأزمة حصار شديد، وأزمة خيارات في ظل الانقسام. أي أن تلك الأجواء هي أجواء مثالية للعدوان الإسرائيلي.. ولكن رغم ذلك لا تزال الثقة كبيرة بقدرات الشعب الفلسطيني في الدفاع عن شرف أرضه وقضيته العادلة وعن العرب جميعًا، وكما قدم ولا يزال التضحيات، مستعد لتقديم أضعافها حتى استرداد كامل حقوقه، ووضع حد للظلم والاحتلال.