حينما يتوقف الدماغ عن الإنتاج ينتهي دور الجسد ليصبح معتلًا غير منتظم، فالأجساد حينما تنفصل عن المحرك والموجه تموت بصورة أخرى وهي تفقد السيطرة بل والقدرة على التكيف والتأثير وتنتهي الفعالية.
فمرتبة الفكرة التي ينتجها العقل بالنسبة للجسد، كمرتبة العلماء الذين يفيضون بعصارة جهدهم ويضيئون فضاء واسعا أمام الآخرين بما لديهم من مستوى متقدم من العلم والمعرفة.. هم أصناف هؤلاء العلماء ففريق ارتبطت أبحاثهم ومخرجاتهم العلمية بمطالب ورغبات متصلة بالأسباب المادية طمعا في حياة تملؤها الرفاهية، وصنف آخر أزهرت أفكارهم من بين الأشواك وأظلت من حولها لتقدم طوق النجاة لشعب يتعرض للقهر والاحتلال، وقد حملوا أفكارهم يحيطهم الخوف ويلحفهم القلق، وقد تجردوا من الأنانية وانسلخوا عن المطالب الدنيا ليرتبطوا بقضايا مصيرية سامية أشغلت أبحاثهم ودراساتهم المتقدمة ليكونوا جسورًا جديدة يصنعون الأمل لشعبنا الفلسطيني.
هؤلاء تاريخهم حافل مع ثورتنا الفلسطينية فهذا الشعب يفخر بسجل واسع من العلماء الذين طافوا جامعات العالم ومراكزه العلمية والبحثية شرقًا وغربًا، ليرفعوا اسم فلسطين عاليًا ويحققوا مكاسب جديدة لشعبنا على طريق مواجهة الاحتلال، فالشهيد البطل العالم فادي البطش يعلم تمامًا أن أفكاره وأبحاثه وإنجازاته المتلاحقة تصدرت الصفحات والمواقع البحثية، وأن هذا الاسم بدأ يشعل الضوء الأحمر حوله.. فعيون العدو ترقبه هو وزملاؤه بعد أن بدأت صفارات الخطر تطلق وميضها في وجه الأجهزة الأمنية والاستخبارية الصهيونية، لأن تمدد نشاط هؤلاء العلماء الفلسطينيين يعني على أي حال تطور نشاط المواجهة وانتقال أدوات وإمكانات المقاومة إلى مراحل يصعب السيطرة عليها، لأن الصهاينة باتوا يدركون أن هذا الرجل يطير أفكاره إلى العشرات وربما وجدت ثمرة بعض أبحاثه وأعماله تنتقل من بين الأوراق لتصبح كمائن وقنابل موقوتة يمكن أن تمس أمنه وتشكل خطرًا على قواته.
فالعلماء وما يحملون من أسرار يشكلون ذخيرة حية وفاعلة في رفع مستوى التهديد في وجه الاحتلال، لأن صراع الأدمغة ما زال يدخل مراحل معقدة تزيد حجم التحديات في وجه الاحتلال، فلم يعد قادة الموساد الإسرائيلي في حيرة من أمرهم، وقد اتخذوا قرارهم باغتيال العالم فادي البطش في مدينة كوالالمبور الماليزية بطريقة معتادة وأسلوب مكشوف يظهر حجم الإجرام الصهيوني، وطبيعة النشاط الإرهابي الذى تمارسه فرقه التي تنشر الموت في هذا العالم، والتي تعودت على تعقب العلماء الفلسطينيين ومن قبل العرب والمسلمين، وتصفيتهم أو اختطافهم، ظنًّا منها أن الطلقات ربما تكون أقفلت المجال الجوي أمام وصول هذه المعلومات والأسرار التي حملها شهيدنا وغيره، ولكن يبدو أن هذا العالم المقدام فضاؤه أقوى من فضاء وحدود تفكير العدو، فسفراؤه يجوبون العالم وأبحاثه وصلت للآلاف وثمرة جهده ربما تكون أحد التهديدات القادمة، وقد تشابكت خطواته العلمية والنضالية لتشكل نسقًا متكاملا ما بين الفكر وانعكاسه وترجمته لأداة حقيقية تزيد من قدرات شعبنا على الصمود والمواجهة وإيلام العدو.
نعم سقط هذا الجسد بفعل الرصاصات وانتشرت دمائه برائحتها الزكية، وشعر هذا العدو بنشوة الانتصار المحدود في تغييب أحد العقول الكبيرة، لكن يدرك العدو في ذات الوقت أن المقاومة الفلسطينية تتمتع بذاكرة فولاذية ولا يمكن أن تنسى أو تتغافل عن هذه الجرائم وأنها ما زالت عند وعدها في جعل هذه الدماء جحيمًا وكابوسًا يطارد قادة العدو، وأن لديها نفس طويل والحساب لم يقفل بعد، وأن جيش من العلماء يواصل المسير على ذات النهج.