دقت ساعات المساء وتزاحمت الأقدام متجهة إلى صالة المعبد، فكلٌّ يصطف مستشعرًا هيبة الكاهن الأكبر الذى بدا وكأنه يهب الحياة ويزرع الموت، حياة لولادة عسيرة لمولود غير شرعي خرج على عجل بعد أن لفظته الدنيا ليتلاطم مع أمواج الحياة، وموت لولد عاق انتهى دوره في اضطهاد شعبه، ليفسح المجال أمام فصول أخرى يمارسها بهلوان جديد يريد أن يسير على الحبال، لكنه لا يحظى بانتباه الجمهور، ويبدو أنه متطفل على هذه الصالة، بل على هذه المهنة.
فالعرض الأول كان محرجًا حين سقطت الكلمات من أفواههم لأن معانيها أكبر من أفهامهم التي ضاقت ولم تتسع لحجم الوطن، ثم عادوا مسرعين في جولة أخرى يتقاطرون وفي أيديهم ورقة صغيرة، ويبدو أنها تذكرة قطار أو دعوة لحضور فيلم جديد في القاعة نفسها، وعندما قرأ بعضهم ما لديه فهمت حينها أنه مشهد الإعادة، إعادة القسم لأداء الواجب، ورعاية الأمانة، والحفاظ على الوطن، ولكن عن أي وطن يتحدثون؟!، وأين حكومة الوطن؟!، إنهم أشبه بلصوص اجتمعوا في سقيفة يتقاسمون الأدوار تحت ضوء خافت، وقد تسوروا الحائط واغتصبوا الدار، ونهبوا ما يكفي من حقوق شعبنا، وليتهم قنعوا بما فعلوا؛ فلا يزال في جعبتهم الكثير.
لاشك؛ فسيدهم يمسك الخريطة بيد والعصا باليد الأخرى، وبدا متحمسًا لفكرة الوطن البديل، وظهرت عليه علامات الرضا عن مشهد الرحيل القادم، إنها أحلام وأوهام لا يمكن الانغماس فيها، وإن زادت حدة وقوة هذه العصا على شعبنا مع قسوتها؛ فمع كل ضربة تقطع أسبابًا جديدة لإمكانية الحياة في غزة يتأكد أن الموت أهون على هذا الشعب على أن يقبل خريطة مرقعة ووطنًا في أطراف الصحراء، فجدار الصمود لم يتهاوَ بعد، والوعى يجتاح الوطن رفضًا لولادة هذه الحكومة، وإرادة شعبنا تحرق كل المؤامرات، والجداول الزمنية على صفحات التاريخ تفيض بالأحداث التي ترسخ نبوءة التحرير، إنها تكفي للدلالة على مصير محتوم لهذا الفريق الذي لم يعتبر من سابقيه الذين سقطوا أو أسقطوا في بئر المناكفات والإقصاء، لينتهي بهم المطاف خارج اللعبة.
إن الرهان الحقيقي -يا هؤلاء- أن يخرج الوليد من رحم الوطن، فلا اللقيط ولا مقطوع النسب ولا العاق يمكن أن يصلحوا ما أفسده الزمان بهذا البيت، إنها فلسطين التي كانت كبيرة دومًا وحملها ثقيل لا يتقدم له إلا صحاح العقول والأبدان، فمن كان صادقًا في حب الوطن فليجمع شتاته، وليهرع إلى تطبيب الجراح، ويفتح ذراعيه واسعًا، ممسكًا بلبنات التغيير التي يمكن أن تشكل سفينة نجاة تبحر في طريق الوحدة والتحرير.
أما أولئك الذين ماجوا يطبلون لهذا الورم الجديد في الجسد الفلسطيني، وأصدروا الفتاوى والتصريحات، مسقطين التهم عن أنفسهم بعد أن تلوثوا في وحل المؤامرة؛ أما آن لكم أن تعودوا إلى رشدكم وتقفوا دقيقة مراجعة، أم أنكم أصبحتم كفئران الخمارة التي تتسلل إلى الحانة بعد رحيل الضيوف لتمارس السكر المزيف، حتى إذا ما أشرقت خيوط الشمس هربت لتنجحر في مخابئها؟!