أدى د. محمد اشتية رئيس الحكومة الثامنة عشرة اليمين الدستورية مرتين أمام رئيس السلطة محمود عباس، إيذانًا بمباشرته ومباشرة أعضاء حكومته مهامهم الرسمية، مع أنه كان يلزمه قبل القسم عرض أعضاء حكومته وبرنامجها على المجلس التشريعي لنيل الثقة والحصول على تأييد المجلس لها، وفي هذا عوارٌ دستوريٌّ كبيرٌ يطعن في دستوريتها ويشكك في شرعية قراراتها.
لكنه لم يكن رئيس الحكومة الأول الذي لم يعرض حكومته على المجلس التشريعي لنيل ثقته، فقد سبقه الرئيسان السابقان د. سلام فياض ود. رامي الحمد لله في أكثر من حكومتين، ومع ذلك عمرت حكوماتهما طويلًا، واتخذت قراراتٍ كثيرةً وبعضها خطيرة، وعلى خطواتهم واصل الرئيس نهجه متجاوزًا المجلس التشريعي ودوره.
قد لا ينتبه الشارع الفلسطيني العام في الوطن واللجوء والشتات إلى العوار الدستوري الذي أصاب هذه الحكومة والحكومات السابقة، وقد لا يهتم بالطعن بها دستوريًّا وادعاء بطلانها وعدم شرعيتها، وقد لا يعير حادثة إعادة القسم الدستورية اهتمامه، ولن يخرج إلى الشوارع مطالبًا بسقوط الحكومة لعدم دستوريتها؛ فهو يعلم أنه لن يغير من واقعها شيئًا، ولن يشطب حقيقة وجودها، ولن يستبدل أعضاءها أو يضيف إليهم الجديد، فقد انتهى الأمر وأُعلنت الحكومة وأقسمت اليمين، والتقطت صورتها التذكارية، وبدأت حفلات الاستقبال التهنئة وزيارات المباركة.
المواطن الفلسطيني منهكٌ متعبٌ معذبٌ، جائعٌ فقيرٌ معدمٌ، جريحٌ مريضٌ مصابٌ، مضطهدٌ مظلومٌ محرومٌ، محاصرٌ سجينٌ مخنوقٌ، عاطلٌ بلا عملٍ وخريجٌ بلا وظيفة، حياتُه نكدةٌ وعيشُهُ مرٌّ، أيامُه كئيبةٌ وأوقاته حزينةٌ، رخاؤه محرمٌ ورفاهيته أحلامٌ، مستقبله غامضٌ وغده مجهولٌ، العدو يلاحقه والسلطة تتابعه، وسجونهما كليهما له مفتوحة على مصراعيها، وعذابهما له مرٌّ أليمٌ لا يتوقف، فهل يفكر هذا الإنسانُ المجبول بالهموم والمسكون بالأحزان، التائه الطريق العاثر الخطى، في غير همومه ومشاكله اليومية؟!، وهل يتطلع إلى غير من ينقذه ويأخذ بيده، وينتشله من حمأته ويقيل عثرته؟!، فقد أعيته الحياة الواسعة وضاقت به سبل العيش الكريم.
الفلسطينيون لا يريدون حكومةً شكليةً ولا يتطلعون إلى وزارةٍ وهميةٍ، ولا تعنيهم الأشكال والهيئات ولا الأسماء والصفات، ولا يكترثون بالمراسم والإجراءات، والصور والبروتوكولات، إنما يعنيهم أن تكون حكومتهم موحدةً جامعةً، تشمل الكل الفلسطيني وتشكل الإطار الوطني، تنطق باسم الشعب كله وتعبر عنه، وتعمل له وتفكر من أجله، وتهتم به وتنشغل له، يُمَثَّل فيها الجميع ويشترك في برنامجها الكل، وينخرط في صفوفها القومي والإسلامي واليساري، على قاعدةٍ واحدةٍ تجمعهم وبرنامجٍ وطني يجمعهم، أساسه استعادة الوطن وتحرير الأرض وخدمة الإنسان؛، فظروف المواطنين الفلسطينيين تفرض حاجتهم لحكومةٍ وحدويةٍ تهتم بأمرهم وتقوم على شؤونهم، وترعى مصالحهم، وتضحي من أجلهم وتقاوم في سبيلهم.
المواطن الفلسطيني في حاجةٍ إلى حكومةٍ راشدةٍ وقيادةٍ حكيمةٍ تساوي بين أقاليم الوطن، وتتمسك بقلبه وأطرافه، وتتساوى عندها مدنه وبلداته، وتعدل بالحق بين أبنائه، تعطيهم بسخاء وتعمل من أجلهم بصدقٍ وإخلاصٍ، وتكون معاييرها وطنية ونظرتها غير حزبيةٍ، وتخوض الصعب وتتحدى المستحيل لخدمة المواطنين والتخفيف عنهم، أيًّا كانت انتماءاتهم وولاءاتهم؛ فهم أبناء الشعب وشركاء الوطن، فيجب عليها أن تنهض بشؤونهم، وتحسن من مستوياتهم، وتخلق فرص العمل لهم، وتبتدع المشاريع الجديدة لاستيعابهم والمخططات الإستراتيجية لتوظيفهم، وترفض تدخل الاحتلال في شؤونهم، وتمتنع عن التعاون والتنسيق الأمني معه، وترفض اجتياحه مناطقهم واعتقاله أبناءهم، وتحول دون انتهاكه حياتهم واعتدائه على حرياتهم.
الفلسطينيون بأسمالهم البالية، وهيئاتهم الحزينة، ووجوههم المتغضنة، وسحناتهم المعذبة، وجراحهم المتقرحة، وآهاتهم المكبوتة، وأنَّاتهم الموجوعة، يريدون من حكومتهم أن تكون حكومةً رشيدةً عاقلةً، تُحَكِّمُ ضميرها وتتقي الله في شعبها ووطنها، تخاف الله وتخاف على شعبها، وتوقف جريمة العقوبات الظالمة وغير الإنسانية المفروضة عليه في قطاع غزة، وتنهي مسلسل القرارات الكيدية التي أضنته وأتعبته، وزادت محنته وعمقت أزماته، وتعيد إلى الموظفين رواتبهم، وإلى المواطنين كرامتهم، وإلى السكان تيارهم الكهربائي، وإلى المرضى أدويتهم، وإلى أصحاب الحالات المزمنة إحالاتهم، وإلى المسافرين معابرهم، وإلى الطلاب أذوناتهم، وإلى كل ذي حقٍّ حقه وحاجته، ولعل إبطال هذه القرارات المجحفة بحق غزة وأهلها يُجَمِّل صورتها ويقلل من حجم الرفض لها.
الفلسطينيون عمومًا يريدون أن تدرك حكومتهم أن وطنهم سليبٌ وأرضهم محتلة، وأن مقدساتهم تدنس وكرامتهم تنتهك، وأن أبناءهم في السجون والمعتقلات يعذبون ويضهدون، وأن شعبهم يعاني ويشكو، وأن القدس يهددها الخطر، والمسجد الأقصى تطاله انتهاكات كبيرة وتحاك عليه مؤامرات خطيرة.
ويريد الفلسطينيون من حكومتهم أن تتصدى للصلف الأمريكي، وأن تقف في وجه الإدارة الأمريكية ورئيسها، وأن تعلن رفضها صفقة القرن، وإدانتها القرارات الأمريكية المتعلقة بالقدس واللاجئين، واستنكارها كل عمليات الاختراق والتطبيع الرسمية العربية، وتصفها بأنها خيانة وتصنفها أنها تفريط وتنازل عن حقوق الأمة وثوابتها.
الأمانة الوطنية تملي على هذه الحكومة أن تتصدر لهذه المهام الأولى والتحديات الماثلة، فلا تتقدم عليها مهام ولا تسبقها أولوياتٌ، وألا تستخفها أو تقلل من شأنها أو أثرها، وهي التي آثرت أن تكون بلونٍ واحدٍ، بعيدًا عن الإجماع الوطني والشرعية الدستورية، فهل تكون مع ذلك حكومة الشعب والأمينة على الوطن، فتنتمي إلى المواطنين كلهم، وتنتسب إليهم جميعهم، وتعبر عنهم وتأتمر بأمرهم، وتسير على نهجهم، وتغضب من أجلهم، ولا تسمح أبدًا بأي قرار يؤلمهم أو يؤذيهم، أيًّا كانت سلطة القرار أو الجهة الصادر عنها أو الآمرة به؟