قائمة الموقع

في رحلة لم تكتمل وعدها ببيتٍ أجمل فانتزعت له "قبرًا دائمًا"

2019-04-01T13:17:48+03:00
دعاء وابنتها "إيلين" وشقيقها حمزة

الحلقة الثانية (الأخيرة)

تسللت شمس الحزن من نافذة الغرفة الخشبية في "جزيرة الموت" التي فقدت فيها أغلى "حبيب"، لم أتخيل يومًا أن تأتي اللحظة وأستيقظ لأراه غير موجود، اختفى ظله من الغرفة، بل من الحياة، كل شيء بات من الذكريات، لم يبقَ إلّا صدى صوته، ليتنا نستطيع إيقاف الزمن عند تلك اللحظة (لحظة ما قبل الغرق)، كان الصباح الأول دونه كئيبًا، ما زلت غارقة في ظلمة الحزن، أتكِئُ على أجمل هدية تركها "محمد" قبل أن يغرق، إيلين ابنتنا الوحيدة وأملنا الوحيد.

في الليلة السابقة لم أشعر أن محمدًا غير موجود، كنت أمسك بيده وهو يهمس كلمته المفضلة لي كأي حبيب: "بحبك، حضلني معك طول العمر".

كنت أمسك بيده، نتحاور طوال الليل، حوار روح في جسدين، لم يتبخر طيف الذكريات، ولما يدرك عقلي حقيقة الفراق.

لم أجد سوى الدموع لتخفف عني وكأنها أصبحت ضيفي الدائم وملاذي حين تجوبُ الذكرياتُ عقلي، فكانت الهموم لا تتركني وشأني، بدءًا من حادثة غرق زوجي( محمد النونو)، وعدم مبالاة سلطات اليونان بعملية إنقاذه بحجة أن يوم الأحد الخامس من آب (أغسطس) 2018م كان يوم عطلة، لم يكترثوا لحالتي، حتى كلامي لهم: "مش دودة اللي غرقت، هدا إنسان بكون حياتي كلها" لم يحرك أحاسيس الإنسانية في قلوبهم.

لم أسلم من تلك الهموم وأنا غارقة في بحيرة أخرى مثل التي غرق بها محمد، الفرق أنّه بغرقه طار إلى أعالي السماء، وأني غرقي مازالَ يخنقني رافضًا فكرة الموتة الواحدة لذاتي، واستمر الجدال مع تلك السلطات حتى مات.

قبر مؤقت ..

"سندفنه بقبر مؤقت مدة ثلاث سنوات"، سمعت عن المجتمعات الغربية، لكن الكلام السابق الذي وجهه أحد مسؤوليهم جعلني أغير نظرتي، هناك أشياء تُحير الخيال.

انتهت المفاوضات، واستطعت انتزاع قرار بدفن زوجي في قبرٍ حسبما يسمونه "قبر دائم"، وبدأت الأيام تمر، أجلس وحيدة، تشتاق عيناي إلى رؤيته، تشتاق ذاتي إلى سماع صوته ويحن لساني إلى مناداته، لعل بعض صدى ذلك الصوت يبرد من نار الفراق التي أضمرتها في قلبي بعد رحيله، أستذكر اليوم الأول لنا في الجزيرة حينما جلسنا بخيمة اللجوء.

- كان نفسي أقعدك في أوروبا ببيت جميل، وهاي اللي طلع معي، بدك تصبري بهالخيمة.

"أنا محظوظ فيك، مش أي بنت بتتحمل"، لا يزال كلامه الأخير يتردد في أذنيّ: "بتعرفي يا "دعاء"، أول مرة بعرف إني بحب غزة كتير، وإنها أحلى مكان في العالم، لما فارقتها عرفت".

إيلين طفلتي الصغيرة، التي أصبحت يتيمة بلا أب، كل يوم أنظر إليها ليس أنها ابنتي بل طفلة يتيمة، عرفت مع الأيام أنها بحاجة لرعاية خاصة، أكتم أمامها حالتي، لكن عيناي تفضحانني في كل مرة، تغلبني دموع الشفقة عليها.

تقلب إيلين صور الهاتف، تنظر إلى والدها تتمتم بصوتها الجميل: "بابا"، فهي تعرفه على صغرها، ثم تسألني وهي تدير يديها: "وينه؟"، أحيانًا لا نملك الإجابة، لكن مع كل ما يعتمل في صدري من لهب حار أتماسك من جديد، وأحرر الكلمات من بين شفتي الراجفتين: "راح يجيبلك لعبة"، وأحضر لها لعبة أقول لها: "هذه من بابا".

قد تستمر الحياة، لكن طعم المرارة فيها لا يغادر فمي، أكابر كي لا تصيب سهام حزني الجميع، أحاول جاهدة كتمان أنفاسي، وأعتزل بصومعة الحزن وحدي.

هكذا كنت في بداية أشهري دون محمد في بلاد لا أعرفها ولا تعرفني.

"ما سر تلك الدمعة الراسية على شواطئ مقلتيك ولا تغيب عنها؟" تسألني عيون من حولي في الجزيرة، أو من يهتمون لحالتي من أصدقاء زوجي، في الوقت الذي كانت فيه مواجهة الحياة والخروج من "بحيرة الألم" شيئًا صعبًا، لكن كنت كلما نظرت إلى "إيلين" أعطتني دافعًا إلى ترميم النفس، والنهوض من بين ركام الألم والحزن، والوجع.

"وين بابا؟" في الواقع تجد الأم سهولة في الإجابة بوجود الأب، أما بفقدانه فيكون هذا أصعب سؤال، ماذا أقول؟!، بم أرد عليها؟!، كيف سأخبرها أنه غرق وهو يمارس السباحة في بحيرة بجزيرة "كيوس" في اليونان في بداية رحلتنا إلى أوروبا؟!، عملًا بنصائح المختصين النفسيين أشغلتها في الألعاب.

القبر ..

قبرك -يا "حبيبي"- أصبح مسكنًا لجسدكَ، وروحي باتت تغفو عنده كل ليلة، ليته كان قريبًا لأزورك كل يوم، لكنه كان على أطراف الجزيرة، صعبًا الوصول إليه، لا بأس؛ فروحي تزورك في كل لحظة.

في الزيارة الأولى اصطحبنا إلى القبر أحد أفراد المنظمات الإنسانية بسيارته، المشهد الأول كان قاسيًا، رافقنا اثنان من السفارة الفلسطينية قدما لي مساعدة كبيرة في انتزاع قرار دفن زوجي ووضع شاهد على قبره، تجدد الجرح من جديد وكأني فارقت محمد للتو، إيلين تلتف حول قبر والدها، أشعر وكأن نيران قلبي ستنفجر، أصمت لأترك دموعي تحدث روح "محمد" وهي تنحدر على وجنتي، وأحدث نفسي: "ليتني أستطيع الحديث إليك، يا محمد، أو أسمع صدى صوتك".

أحيانًا يجب علينا الصمت والتأمل، لأن الكلمات تزيد الوجع.

"الكامب" ..

مدة سبعة أشهر عشتها في "الكامب" (مخيم للاجئين)، ضيفي الدائم هو القلق، لكون غرفتي الخشبية ضمن مجموعة غرف دون سقف في داخل خيمة كبيرة، أخشى أن يفتح أحد اللاجئين الباب؛ فهؤلاء من جنسيات وبلدان عربية وأفريقية، أو ينظر أحدهم من السقف، أعترف أني لم أرَ مستنقعًا كمستنقع مخيم اللاجئين، مع أني لا أخالط أحدًا، لكن لا مفر من سماع كلام يطحن القلب، أرى أشياء صعبًا وصفها من مشاكل، وكثير منهم بعيدون عن القيم والآداب الإنسانية.

تأخذني الأيام بعيدًا مع مرورها، اشتقت إلى ميت غابت صورته، وصوته، واسمه عن بعض البشر، لكنه "زوجي"؛ فكيف سيغيب عن ذاكرتي؟!، لم أجد إلا شاطئ الجزيرة، كي أُحمّله بعضًا من همومي، مع إشراقة شمس يوم جديد، تسوقني قدماي مشيًا إلى الشاطئ، أجمع الحصى، وأرميه، كل حصوة ألقيها تعطيني "أملًا" في أنه بإمكاننا التحكم بمشاعر الحزن بداخلنا، كان "الحصى" الأمل الوحيد أمام حجم الظلام المستقر بداخلي وحولي.

مع كل حصاة أحدث قلبي:

- أيها القلب، قد يهزمك البكاء في لحظة حنين، قد تكسرك ذكرى عابرة في لهفة شوق، لكن لا تؤجج نيران الشوق في صدري وأنا في غصة حزن كي لا تحترق.

أنظر إلى المياه، أتخيل صورة محمد وكأنه سيخرج لي من تلك المياه التي أغرقته كعادته يقول: "يلا نتمشى يا دعاء".

تتسارع دقات قلبي، يبرد دمي، عندما أريد أن أصف ما بداخلي فيدمع قلبي شوقًا، يا حبيبي الراحل، عد؛ فقد خذلني صبري بعد رحيلك، اشتقت كثيرًا إلى حضن يجعل الدنيا بعيني أجمل.

من "الجزيرة إلى "البر" ..

مرت تلك الأشهر السبعة، وجود أخي "حمزة" ساعدني على تجاوز "محنة الفراق"، انتهت مدة وجودي في جزيرة "كيوس"، كانت كلمات أخي وأمي تبعث الأمل بداخلي المتخفِّي وراء جبال حزن كبيرة أحكمت أوتادها على جدار قلبي: "الحياة ما بتقفش، الحلم اللي بدأتيه مع محمد كمليه مع إيلين".

توقعت حينما أخرج من الجزيرة تجاوز تلك المرحلة، وتخطيها، فوجدتني أعيش في "البر اليوناني" كأحداث الجزيرة: أهلها، وشوارعها، ومواقفها، رغم تغير المكان (بيت أرضي صغير مسقوف بـ"القرميد"، تحيط به أشجار مزروعة، حديقة منزلية صغيرة)، انتقلت إليه، لكن الذكريات التي تركتها في الجزيرة لا تزال بقلبي، تستوطن فيه كاحتلال لا أعرف متى سأتحرر منه.

استمر الصراع الداخلي، بين الألم والأمل، والموت والحياة، والانكسار والنهوض، وصلت إلى حدود اليونان، تحديدًا مدينة سالونيك، شمال اليونان، أنظر إلى تلك المناظر الطبيعية الجميلة التي كان يحبها "محمد".

- دعاء، في أوروبا حنغامر ونطلع من اليونان على بلغاريا وصربيا وبنصل بلجيكا.

لم أتخيل أن أصل إلى حدود اليونان بمفردي دون محمد، أن التقط صورة تذكارية لا يتوسطها.

كبرت "إيلين" وأتمت ثلاث سنوات، كلما رأت صورة والدها عرفته ورددت: "بابا"، ثم تسأل سؤالها الذي لا يتوقف: "وينه"، ترى أطفال الجيران من اللاجئين ينادون: "بابا بابا"، فترى آباءهم يأتون ويقبلونهم، ويحملونهم، يلعبون معهم، تأتيني وتسألني: "وين بابا؟"، هنا لا أملك إلا الدموع لتجيبها.

"دعاء لوين حابة توصل؟" ..

لا أخفي أن طفلتي "إيلين" أحد الأسباب التي جعلتني أنبض بالحياة، دفعتني لأكمل طريقي، لأن هناك أشخاصًا لا يستطيعون رؤيتي منكسرة.

إكمال الطريق دونك -يا محمد- حرب أخوضها مع الحياة، المر فيها أنني دونك أحارب وحدي، وأصارع دنيا قاسية بمفردي.

"راح أكون سندك طول العمر" كلما تذكرت كلماتك تلك ارتسم الدمع من عيني نهرًا يسد طريق الأمل مرة أخرى بسيول الفراق، وأبدأ الصراع مع الذات من جديد؛ كلي ثقة أن الله سيعطيني أجر صبري على الوجع.

الجميل أنّني صرت أقوى، أعتمد على ذاتي.

ترك محمد أشياء جميلة، أجملها طفلتنا "إيلين"، لا أستطيع تخيل حياتي كيف ستكون دونها، تغيرت لأن هناك أشخاصًا حفزوني على إكمال الطريق، بضع كلمات أنقذتني من صراعي في وقت كانت عقارب الحياة متوقفة في داخلي، قررت الرجوع كالسابق، ومحو تلك الدمعة التي لم تغب طوال سبعة أشهر.

كانت الكلمات هي أن الحياة مستمرة لا تتوقف، إلا إذا أوقفناها نحن بتوقفنا في نقطة التلاشي بلا هدف يذكر، والغريب أن التوقف هذا يكون صوريًّا فقط؛ فلما نستهلكُ أكسجين الجو المعبّق برحيل من نحب؛ فالحياة تكون مستمرة.


اخبار ذات صلة