في هذه الأجواء المحمومة بالعداء للمسلمين وفي حين ترتفع أصوات السياسيين العنصرية والتي تتعامل مع المسلمين بصفتهم الداء والبلاء ومصدر الشرور والإرهاب، جاءت مجزرة المساجد في نيوزلندا التي راح ضحيتها 50 مسلما لتعيد التذكير بأن المسلمين هم ضحايا إرهاب مزدوج، فهم من يتعرض لأشكال من القتل والاحتلال والتهجير ونهب ثرواتهم وهم النسبة الأكبر من اللاجئين في العالم وفوق ذلك فهم المتهمون ظلما وزيفا وعدوانا بالإرهاب وكأن المطلوب منهم أن يشكروا قتلتهم ومن يحتل أرضهم وينهب ثرواتهم.
فأغلب الضحايا هم من اللاجئين الذين فروا من بلادهم مثل سوريا والعراق وغيرها، ليلقوا حتفهم في مجزرة إرهابية في بلد كانوا يحسبونه آمنا وملجأ لهم. ومع تصاعد الموجات العنصرية في الغرب، يبدو أن الحل الأكثر نجاعة للمواطنين العرب هو في مقاومة طغاة الذين يشكلون وكلاء للقوى الدولية في تدمير بلادنا ونهب ثرواتنا وامتهان كرامة الفرد والمجتمع.
الحقيقة أن العمل الإرهابي الذي استهدف المصلين ليس عملا فرديا بل يشكل تيارا متصاعدا بالغرب، فالكتابة التي تركها القاتل فيها معلومات تاريخية لا يستطيع جاهل غير متعلم كتابتها بل على الأغلب كتبت له. كما أن تعليقات أستراليين على الحادثة في منصات التواصل والذين احتفى كثير منهم بالمجزرة وحيوا مقترفها تشير لتنامي العنصرية في المجتمعات الغربية وهو ما تكشفه نتائج انتخابات سياسية في عديد من الدول الغربية. ومن بين العبارات التي كتبها على سلاحه "التركي الفجّ 1683 فيينا"؛ في إشارة إلى معركة فيينا التي خسرتها الدولة العثمانية ومثلت نهاية توسعها في أوروبا. وكتب على أحد الأسلحة: "وقف تقدم الأمويين الأندلسيين في أوروبا"؛ في إشارة إلى الفتح الإسلامي للأندلس، وتأسيس إمارة إسلامية فيها على يد عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) عام 756م، أيضا شملت العبارات التي كتبها برينتون على الأسلحة "اللاجئون أهلا بكم في الجحيم"؛ تعبيرًا عن رفضه ومعاداته للمهاجرين، الذين اعتبرهم غزاة يحاولون استبدال شعوب أوروبا، أما عبارة "تور 732" فتشير إلى معركة دارت في أكتوبر/تشرين الأول 732م في موقع بين مدينتي بواتييه وتور الفرنسيتين، وتعرف أيضا باسم "بلاط الشهداء"، وكانت بين المسلمين تحت لواء الدولة الأموية بقيادة والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي من جهة، وقوات الفرنجة والبورغنديين بقيادة شارل مارتل من جهة أخرى، وانتهت بانتصار قوات الفرنجة وانسحاب جيش المسلمين بعد مقتل قائده عبد الرحمن الغافقي.
بكل المقاييس لا يمكن تبرير ما حدث ولو بلغت السلطات النيوزلندية ما بلغت من أعذار، فالقاتل برينتون تارانت كتب بيانا مطولا على الإنترنت من حوالي 80 صفحة، ندد فيه بالمهاجرين وتحدث فيه عن نواياه للقيام بالجريمة قبل أقل من 10 دقائق على تنفيذ الهجوم الإرهابي، أنه أرسل البيان إلى مكتب رئيسة الوزراء إلى جانب 70 مستقبلا آخر، من بينهم سياسيون، إذا هو سجل جريمته على الهواء ولم يوقفه أحد ولو كتب أحدهم يهاجم اليهود لحوكم بتهمة معاداة السامية وتم اعتقاله أو في أضعف الإيمان تمت مراقبته. السؤال المحير ويضع علامات استفهام، لماذا تأخرت الشرطة لمدة عشرين دقيقة للوصول إلى الجريمة والمعروف عن نيوزلندا أنها من البلاد التي تهتم بالأمن والأمان؟! المجرم وضح في أقواله انه قصد نيوزلندا بالذات لأنها بلد مليء بالأهداف وأنها أرض خصبة أكثر لتنفيذ جريمته، حيث تتميز القوانين في نيوزيلندا بسهولة الحصول على البنادق النصف آلية، لتجعل معدل حيازتها من بين الأعلى في دول العالم، حيث تظهر أرقام أن هناك 1.5 مليون قطعة سلاح مرخصة في نيوزيلندا، التي يبلغ عدد سكانها 5 ملايين نسمة فقط.
هذا إن دل على شيء فإنما يدل على تواطؤ السلطات وعلى مدى الاستخفاف الذي يُتعامل به مع المسلمين وأرواحهم، حيث ترك المجرم التمتع بالقتل على أنغام الموسيقى والتصوير والتباهي به رأيناه في جريمة نيوزلندا بهوية معروفة وهو منهج داعشي بامتياز. ينبغي أن نذكر بأن داعش المنطقة مجهولة الهوية والوجوه وأن معظم من انتسب إليها من الغرب من خريجي السجون الجنائية مما يطرح سؤالا منطقيا عمن أسس داعش ومن أي بيئة قد انطلقت.
كما يقولون الإرهاب ليس له وطن ولا دين وليس أفرادا ولا مجرد جماعات وإنما هو بالأساس فكر وعقلية وخلفيات منغلقة، وحملات تحريض واسعة وتفسيرات خاصة مضللة للعلاقات والتعاون المشترك، من خلال الفضائيات المختلفة والاجتماعات بالغرف المغلقة وما شابه ذلك، وعدم وجود رقابة على حيازة الأسلحة والتعامل مع الجرائم ضد الأجانب بدم بارد، وإذا كان كل هذا الاستخفاف بالأجانب، فلماذا تستقبلهم الدول المتحضرة ويتم التعامل معهم بعنصرية؟! إن هذه جريمة مدانة بكل قوة، وإذا كان قد تم اعتقال الجاني فإنه يجب أن يدفع الثمن بلا رحمة، كما أن المطلوب والأهم على المستوى الإنساني، هو التوعية والعمل على نشر روح التسامح والتعاون والمحبة لا العنف والهمجية والقتل، وكل الرحمة للضحايا والصبر والسلوان لأهاليهم.