حياةٌ أفضل.. هذا كل ما يبنيه المهاجِر من قطاع غزة إلى البلاد الأوروبية، في مخيلته، لكن الحقيقة أنها رحلة يسير فيها بين الحياة والموت.
قبل الوصول إلى أوروبا سيصل إلى جزر اليونان، ظانًّا أنه سيمكث لمدة لا تزيد عن خمسة أشهر فيها، ومن ثم سيحصل على جواز سفر ليتحرك في بلاد أوروبا.. حلم بسيط لكنه في الواقع سيمر بحدود وبلاد وسيتعرض للسجن، وسيجد أمامه مشاهد سرقة واغتصاب واختطاف كما في القصص الحية التي يسردها هذا التقرير.
يتوزع اللاجئون والمهاجرون على نحو 12 جزيرة يونانية، أبرزها خيوس، وليروس، وساموس، ومتليني، وكوس. ولم ينسَ كل شخص مر بتجربة الإبحار للهجرة أي لحظة منها، بل بقيت سير الغرقى تروي حكايات اختلطت بها مياه البحر بدمائهم وأرواحهم، كحال الشاب حسام أبو سيدو الذي غرق على أعتاب جزيرة "فارمانكونسي" الصخرية (بلا شاطئ) في 17 يناير/ كانون الثاني المنصرم، ومحمد النونو الذي غرق في جزيرة خيوس في 5 أغسطس/ آب 2018.
مؤمن الجمل (26 عامًا) وصل من قطاع غزة إلى جزيرة ليروس، في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2018، لكنه وجد أن الحياة فيها لم تكن هي تلك الحياة الوردية التي سمع عنها، حيث نجا من رحلة البحر التي لطالما غرق فيها مئات المهاجرين إلى جزر اليونان.
وهناك منطقة مشتركة بين مجموعة من الجزر، تسمى "الكامب"، تضم كرفانات أو خياما كبيرة بها غرف خشبية تضم عائلات وشبابا لاجئين، محاطة بأسياج وبوابات حديدية، وهي مكان أشبه بالسجن. أعاد هذا المكان الشاب الغزي إلى مشاهد المتضررين في غزة بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي عام 2014.
ما سبق هو المظهر الخارجي لتلك المنطقة، أما عن تفاصيلها فيقول الجمل الموجود حاليا بتلك الجزيرة لصحيفة "فلسطين": إنها مقسمة إلى أربعة أقسام، كل قسم يحتوي على 25- 35 كرفانًا، يفصل بينها أسيجة وبوابة بين كل قسم، وكل كرفان يضم غرفتين، الأسرّة مكونة من طابقين يتكدس فيها عشرات الأشخاص.
أما عن الطعام، فيضيف أن الأكل والشرب المقدم للاجئين رديء يخالف الشريعة الإسلامية، فهنا لا يُذبح الدجاج بل يتم كهربته، ومعظم وجبات طعام الغداء هي الفاصولياء أو معكرونة أو مجدرة، في حين يقتصر الفطور على قطعة من عجينة الطحين تشبه "الكعك أو العوقا" كما يعرّفها الغزيون، لا يأكلها اللاجئون من غزة لاحتوائها على نسبة كحول.
وتقوم جمعيات تابعة للأمم المتحدة في جزر اليونان بصرف راتب شهري يبلغ 90 يورو فقط لكل لاجئ وصل اليونان، ويستمر لنحو عام حتى يحصل على إقامة يونانية، فضلًا عن أن السلطات تقوم بأخذ بصمته، بالتالي يصبح الوصول إلى بلجيكا، حلم كل لاجئ منهم، أمرًا صعبًا وبعيد المنال، وتكون إمكانية إعادة ترحيله للدولة التي حصل على إقامة منها، كبيرة.
ويقدر الجمل عدد اللاجئين في الجزيرة بنحو 1250 لاجئًا أو مهاجرًا معظمهم من قطاع غزة رغم أن قدرتها الاستيعابية هي 500 شخص، مردفا أنه بمجرد وصول المهاجر جزر اليونان، تعطيه السلطات فرشة وغطاء بعد تفتيشه تفتيشا كاملا، وتحدد له رقم الكرفان الذي سيمكث فيه، ويظل 25 يوما يمنع من الخروج من الكامب إلى حين إجراءات التسجيل والبصمة.
محاولات انتحار
ووصل شادي وشاح (33 عاما) جزيرة ليروس قبل شهرين، ولم يكن يتوقع أن تكون الحياة صعبة لهذه الدرجة التي دفعت بعض المهاجرين للانتحار، يقول لـ"فلسطين": "نعاني من العنصرية في التعامل، وعدم وجود فرص عمل، وطول مدة الإقامة في الجزيرة".
هذه الأمور وغيرها الكثير، دفعت بعض اللاجئين لمحاولة الانتحار بشنق أنفسهم، لولا تدارك الموقف والسيطرة عليهم، عن ذلك يضيف وشاح أن أسباب الاحتقان بهذه الجزيرة، جاء نتيجة "تكرار اعتداء المواطنين اليونانيين على اللاجئين الفلسطينيين بجزيرة ليروس، وتدخّل الشرطة بشكل عنيف لاقتحام (الكامب) وضربنا، ومن ثم أخذنا للمحكمة"، مشيرًا إلى أن قنصلية السلطة الفلسطينية تتنصل من دورها تجاه اللاجئين.
لم يتوقع وشاح وغيره من الشباب أن يخرجوا من حصار إسرائيلي في غزة منذ 13 عاما إلى سجن ومعاناة أكبر، بل "جحيم لا يطاق" حسب وصفه، مردفًا "كل شخص في هذه الجزيرة وغيرها من الجزر تبني عائلته في غزة آمالها بأن يعمل ويرسل لها دخلًا في ظل تردي الوضع الاقتصادي، لكنه يجد نفسه بأنه لا يستطيع إعالة نفسه".
برد شديد، أكل رديء، إهمال طبي، معاملة عنصرية من اليونانيين للاجئين، هو ما يصفه الشاب حمزة انعيم الذي وصل الجزيرة في شهر أغسطس/ آب الماضي، بعدما توفي زوج شقيقته دعاء غرقًا في أحد تجمعات المياه أثناء سباحته خلال رحلة ترفيهية، ليواسي شقيقته ويخرجها من مصابها.
بعد عدة شهور في جزيرة خيوس خرج انعيم وشقيقته منها، لكن بقيت آلامها ترافقهما، وأي آلام أصعب من ترك جثة "حبيبهما" مدفونة في تلك الجزيرة شاهدةً على معاناة اللاجئين.
بنبرة صوت بدا عليها الغضب، يقول انعيم لـ"فلسطين": إن السلطات اليونانية ليس لها علاقة باللاجئين، وإن الجمعيات الإنسانية هي من تقدم المساعدة لهم، وخلال تواجدي في "الكامب" الخاص بالجزيرة التي نعيش فيها، كان يضم 3 آلاف مهاجر ولاجئ، مع أنه لا يتسع لأكثر من 700 شخص، مكون من خيم كبيرة تضم 15 غرفة من الخشب سقفها من النايلون وأبوابها مفتوحة (..) الحياة صعبة جدا ليس كما يتخيلها أي شخص".
رحلة إلى المجهول
الخروج من اليونان ليس نهاية المعاناة، بل بدايتها. قصة علي يونس منصور (33 عامًا)، تُجسد ما يمر به كل لاجئ بعد اليونان، فهو خرج من غزة في 14 فبراير/ شباط 2016، وهو خريج دراسات إنسانية من الجامعة الإسلامية.
بعد عدة شهور في جزيرة "لسبوس" خرج من اليونان ظانًّا أن طريقه ستكون مفروشة بالورود، لكن ما حدث بعد ذلك كان مخالفًا لتوقعاته، يروي ما حدث لـ"فلسطين" بقوله: "خرجت من اليونان عن طريق أحد المهربين، لكنه تركنا بين حدود مقدونيا وصربيا، فتعرضت للخطف من مهربين ألبان".
على مدار 27 يومًا احتجز المهربون منصور وعددًا آخر من اللاجئين والمهاجرين من جنسيات مختلفة في أحد الكهوف الجبلية، شاهد خلالها مواقف مروعة ينتقي إحداها: "شاهدت المهربين يضعون سكينا على رقبة طفل كان مع ثلاث نساء سوريات لتهديدهن إما بإخراج أموالهن أو قتله، وبعدما أخرجت الأم هاتفها المحمول وكل مالها، أُدخلت إلى غرفة في بيت مهجور، وسمعنا أصوات صراخ النساء أثناء اغتصابهن!".
الساعة الرابعة فجرًا استطاع منصور الهرب من الكهف، سار مشيًا على الأقدام بين الغابات متتبعا أثر خطى مواشي وأحصنة المزارعين، حتى وصل لنقطة عسكرية فاعتقله الجيش الصربي وعرضه على المحكمة وسجن 45 يومًا؛ بتهمة دخول البلاد بطريقة "غير شرعية".
بعدها ذهب إلى هنغاريا وهناك سُجن 36 يومًا، ثم ذهب إلى النمسا، ثم إلى ألمانيا التي أعادته للنمسا، وهنا أُخطر بضرورة مغادرة البلاد خلال 11 يومًا، فتوجه إلى إيطاليا وسُجن 7 أيام، ثم فرنسا، وأخيرًا وصل بلجيكا بعد 7 أشهر ونصف الشهر من السير بين الدول قضى معظمها في السجن.
يقول منصور: إن الوضع في بلجيكا ليس كالسابق، وإجراءات الإقامة للاجئين غير واضحة، ويتم ترحيل اللاجئين إلى البلاد التي حصلوا منها على إقامة، خاصة أن اليونان أصبحت تمنح اللاجئين إقامة بعد سنة من العيش في جزرها وإخراجهم للمدن.