يبدو أنه لم يعد لوزير الحرب الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان مكانٌ يناسبه، ومنبرٌ يستوعبه، ومنصبٌ يلائمه، ومنصةٌ مفتوحةٌ له، بعد أن فقد مناصبه وأُجبر على الاستقالة من وزارته، وخرج من التشكيلة الحكومية غير مأسوفٍ عليه، غير الشبكة العنكبوتية والفضاء الافتراضي الذي تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي، ليستعرض من خلالها مواهبه المتطرفة، وأفكاره المتشددة، ومقترحاته المجنونة، ويبث على صفحاتها سمومه وينشر شروره، ويقترح على رئيس حكومة كيانه وغيره حلوله السحرية، ومخارجه الشيطانية، وتصوراته الإبداعية لخروج كيانه من الأزمات التي تعصف به، والتحديات التي تواجهه، وليستعيد جيشه هيبته التي فقدها، وصورته التي خسرها، وتفوقه الذي اعتاد عليه وتفاخر به.
كثيرةٌ هي تصريحاتُ وتغريدات ليبرمان المتطرفة على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها تصريحاتُ حالمٍ سكيرٍ، مهووسٍ مجنونٍ، أرعنٍ أهوجٍ، ثورٍ عِنْيّنٍ، يظن أنه سيقدر على الفعل وسيستطيع التغيير، وسيقوم وهو خارج السلطة وعديم الصلاحية وفاقد القدرة، بما لم يستطع القيام به عندما كان وزيراً للخارجية ثم وزيراً للحرب، حيث عجز وهو على رأس هذين المنصبين الحساسين الكبيرين، وزارة الخارجية ووزارة الحرب، عن الوفاء بوعوده والالتزام بتعهداته، وفشل في تحقيق الأمن الذي راهن عليه والهيمنة التي ادعاها، والسيطرة التامة التي عمل عليها، وبقي ككيس الملاكمة يتلقى اللكمات، وكالمهداف تصيبه الطلقات وتخترقه الطعنات، وهو عاجزٌ عن ردها وصدها، أو منعها والابتعاد عنها.
منذ اليوم الأول لتسلمه وزارة الحرب وهو يهدد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الأستاذ إسماعيل هنية وقادة المقاومة الفلسطينية بالتصفية والاغتيال، وأنه سينفذ وعيده بالقضاء عليهم خلال أول أسبوعٍ له في وزارة الحرب، وأنه سيبطش بغزة وأهلها، وسيرد على كل صاروخٍ يخرج منه بأضعافه عدداً وقوة تدميرية، ولكنه عجز عن الوفاء بوعده، وبدا أمام زعماء المستوطنين ورؤساء بلديات غلاف قطاع غزة أنه كاذبٌ ومخادعٌ، وظهر أمام أسر وعائلات جنوده الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية بأسوأ صورة وأبشع حال، إذ بان عجزه وظهر فشله في تحرير واستعادة جنوده المفقودين، وخيب آمال عائلاتهم وكسر قلوب أمهاتهم.
لا يفتأ ليبرمان عن وصف نتنياهو بأنه يتحالف مع حركة حماس ضد شعب إسرائيل، ويتهمه بأنه رفض اقتراحاً عملياً بتصفية قادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ويرى أن نتنياهو يخضع لحركة حماس التي تبتزه وتضغط عليه، وتفرض عليه شروطها وتخضعه لمنطقها، وأنها ألزمته بدفع أكثر من عشرين مليون دولارٍ رواتب لموظفيها، مقابل وقف مسيرات العودة أو للحد منها، وهو ما لم يحدث أبداً حتى اليوم، بينما تقاضت حماس أكثر من هذا المبلغ، وما زالت تنتظر المزيد الذي سيدفع لها، ولهذا فهو يحرض الحكومة على وقف هذه الصفقة المهينة، والخروج من هذه اللعبة القذرة، التي لن يفوز فيها غير حماس.
يرى ليبرمان أنه لا حل مع حركة حماس والمقاومة الفلسطينية سوى بحربٍ رابعةٍ، تكون قاسية وموجعة، تجتث المقاومة وتقضي عليها، وتكسر عظم الفلسطينيين وتجبرهم على القبول بما يعرض عليهم مقابل الأمن، ويتهم ليبرمان حكومته التي كان جزءً منها ورئيسها بنيامين نتنياهو، أنهم كالأنعام يدفنون رؤوسهم في الرمال، ويغمضون عيونهم عن الخطر الداهم الذي تحمله وتخفيه حركة حماس ضد الدولة العبرية، واصفاً خطرها بأنه يفوق خطر الحروب السابقة مع مصر، وأن ترويضها مستحيلٌ، والتعامل الناعم معها خطرٌ.
يعيب ليبرمان على نتنياهو أنه يفقد الشعب الإسرائيلي أمنه، وأنه يعرضه لأخطارٍ جسيمةٍ في المستقبل القريب، الذي قد يكون في حالٍ أسوأ مما كان عليه عشية حرب أكتوبر "يوم الغفران"، فقد باتت الجبهتان الشمالية والجنوبية مصدر قلقٍ حقيقي على أمن ومستقبل البلاد، ويرى أن حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي يملكون آلاف الصواريخ الدقيقة، وأنه في حال السكوت عليهم وعدم المبادرة إلى ضربهم لإحباط قوتهم، فإن أمن إسرائيل سيكون في خطرٍ حقيقي.
رغم أنه غادر وزارة الحرب مرغماً مكرهاً، فاشلاً عاجزاً، بعد أن تراجع جيشه الذي يقوده ويرأسه، ولم يتمكن من مواصلة العمليات القتالية لأكثر من يومين، بعد عملية خانيونس الأمنية الفاشلة، إلا أنه لم يتوقف عن إصدار تصريحاته النارية وتهديداته الجوفاء ومواقفه الخرقاء، ولكن هذه المرة بعيداً عن مكاتب وزارة الحرب، وإنما على صفحات التواصل الاجتماعي فقط، ظناً منه أنه يستطيع أن يعوض ما فاته، وأن يستدرك ما خسر، قبل أن تغلق صناديق الانتخابات البرلمانية أبوابها، وما علم أنه استطلاعات الرأي الإسرائيلية كلها تؤكد أنه لن يتمكن من تجاوز نسبة الحسم التي تخوله الدخول إلى الكنيست الإسرائيلي، وفي حال تجاوزه نسبة الحسم، فإنه لن يفوز بأكثر من ستة مقاعدٍ، لا تساعده أبداً في أن يعود شريكاً في الحكومة، أو طرفاً في الائتلاف، أو صاحب رأي وموقفٍ مؤثر في التشكيلة الحكومية الجديدة.
لا يخفى على أحدٍ، عاقلٍ ومنصفٍ، أن يدرك من تصريحات ليبرمان أنه خائفٌ وقلقٌ، وأنه مترددٌ مرتعشٌ، وأنه خطابي شعاراتي، فوضوي غوغائي، ولا يملك رصيداً من المصداقية ولا موروثاً من الخبرة والكفاءة، ولا حكمةً من التجربة والممارسة، فهو يبدو مهزوز الصورة، متعثر الكلمات، مشوش الأفكار، يقفز من تغريدةٍ إلى أخرى، ومن مقترحٍ إلى آخر، ويخاطب رئيس حكومته مهدداً ثم يلين له في الخطاب ناصحاً، أو يتوسل إليه راجياً، إذ لا يملك من القوة ما يجعله يترجم أقواله إلى أفعالٍ، وتهديداته إلى واقعٍ على الأرض، إذ اختلفت عليه الحسابات، وباتت المقاومة أقدر على لجمه ولطمه، وأصبحت قادره على تلقينه الدروس والعبر، فهي لم تعد أرضاً رخوة يستسهل اجتياحها، ولا مياهاً ضحلة يخوضها بسهولةٍ ويسر، بل أصبحت أرض المقاومة سبخةً تسوخ فيها أقدامه وجنده، ومياهها عميقة يغرق فيها وسفنه.