فلسطين أون لاين

​تزامنًا مع يوم الجريح الفلسطيني

عبد الله قاسم يتوكّأ على "دراسته الثانوية" بعد بتر قدميه

...
الزميل نبيل سنونو يحاور الجريح قاسم
غزة/ نبيل سنونو:

بلمح البصر أحال طلق إسرائيلي متفجر قدمي عبد الله قاسم، الطالب في الصف الحادي عشر، إلى أشلاء أفقدته القدرة على النهوض بينما كان جالسًا على بعد مئات الأمتار من السياج الفاصل شرق غزة يشارك سلميا في مسيرة العودة الكبرى وكسر الحصار.

حدث ذلك في 14 مايو/ آيار 2018 بعد يوم واحد من إنهاء قاسم، وهو لاجئ ينحدر من مدينة المجدل، امتحاناته استعدادا للانتقال لدراسة الثانوية العامة.

"كنت أشارك سلميا منذ الصباح ولا أشكل أي خطر على جنود الاحتلال، جلست على الأرض، وفي الفترة بين صلاتي الظهر والعصر أصبت وهرع الإسعاف لنقلي إلى النقطة الطبية ومنها إلى المستشفى"، يروي قاسم فصول الجريمة الإسرائيلية لصحيفة "فلسطين".

اعتقد الشاب الذي يبلغ من عمره 17 عاما، لحظة الإصابة، أنه لا يزال قادرا على المشي لكن أيقن خلال ثوان معدودات أن هذه كانت "لحظة الوداع" لقدميه اللتين تطايرت أجزاؤهما.

وصل قاسم محمولا إلى مستشفى الشفاء التي تقدم الخدمات للمواطنين رغم تأثير الحصار الإسرائيلي سلبا على قدراتها وتوفر المستلزمات الطبية والأدوية فيها، ثم نقل إلى مستشفى القدس وأدخل في غرفة العمليات لوصل الشرايين والأوردة.

لكن الطلق المتفجر "اقتحم" كلتا قدميه وخرج منهما أيضًا، فقطع الشريان الرئيس في أحدهما ولم يبق شيئًا سليما في الأخرى التي كان بترها ملحا من اليوم الأول للإصابة.

وبعد 18 يوما خضع لعملية بتر أبقته دون قدمين؛ إذ قرر الأطباء أنه لا أمل في العلاج ولا جدوى حتى من السفر.

ويوافق 15 مايو/ آيار من كل عام ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني التي وقعت سنة 1948 عندما هجرته العصابات الصهيونية من أرضه. وأسفر استخدم الاحتلال العنف ضد المشاركين في مسيرة العودة السلمية عن استشهاد وإصابة الآلاف بينهم مسعفون وصحفيون.

ويقول قاسم ذو الوجه الأبيض المدور: "ذهبت لأطالب بحقي في العودة وأؤازر شعبي الفلسطيني"، مشددا على أن الاحتلال الإسرائيلي يمتلك كل الأسلحة الفتاكة مقابل الفلسطينيين العزل الذين لم يشكلوا عليه خطرا عند السياج الفاصل.

"العلم سلاحي"

وبعد 10 أشهر مروا على هذه الجريمة الإسرائيلية وتحديدا في يوم الجريح الفلسطيني الذي يحل في 13 مارس/آذار سنويا يمارس قاسم حياته بواسطة كرسي متحرك وهو يتجهز لامتحانات الثانوية العامة، الفرع الأدبي.

وأطلق تجمع مؤسسات الجرحى خلال مؤتمر صحفي عقده أمس في مدينة غزة فعاليات يوم الجريح الفلسطيني. وأصدر الرئيس الراحل ياسر عرفات قرارا بتحديد هذا اليوم للجريح منذ عام 1968.

لكنّ مصادر حقوقية تؤكد قطع السلطة برئاسة محمود عباس رواتب الآلاف من موظفيها في القطاع، والأسرى والجرحى ومحاربتهم في أرزاقهم وقوت أبنائهم، في إطار "الابتزاز السياسي".

وأحيا هذا الشاب يوم الجريح الفلسطيني في غرفته، المشتركة مع أخويه الذين يتوسطهما سنًّا، بمراجعة دروسه على مكتب مجاور لسريره، بينما تتوزع كتبه في أرجاء الغرفة التي تحولت إلى عالم خاص به يخطط للانطلاق منها نحو المستقبل.

وفي صدر الغرفة صورة معلقة لزوج أخته الذي استشهد إثر الحرب العدوانية الأخيرة على قطاع غزة في 2014، تاركا وراءه طفلين.

ويبدو بيت قاسم عامرا بالتعاون بين أفراده، إذ يقول: "كنت قبل الإصابة أفعل كل شيء بمفردي، والآن يساعدني والداي وأخواي في النزول والصعود على الدرج، وفي الذهاب إلى المدرسة".

رغم ذلك يسعى بكل ما أوتي من قوة إلى الاعتماد على نفسه في قضاء حاجاته.

وشجعه والداه على إكمال تعليمه، فيما ينتظر حاليا تركيب أطراف صناعية في غضون ثلاثة أشهر.

وينوي قاسم الذي يعتكف في بيته للدراسة قبيل الامتحانات، التخصص في برنامج برمجة الحاسوب خلال المرحلة الجامعية.

ولم يتبق الكثير له حتى يتم دراسة منهجه ذاتيا ليعاود مراجعته مرارا وتكرارا خلال الفترة القادمة.

يلقي قاسم بنظرة يتسلل منها شيء من الحزن على بتر قدميه، لكنه يطلق كلمات بنبرة حاسمة: الإصابة لن تعيقني عن الحياة.

ويتمسك بقناعة مفادها أن الإنسان لن يستطيع العودة إلى الماضي، ولابد أن يتكيف مع المستجدات التي تطرأ دون انكسار.

ولم تثنه خسارة جزء من جسده عن تأكيد انتصار اللاجئين الفلسطينيين يوما ما على الاحتلال الإسرائيلي، قائلا: النصر إن لم يكن على أيدينا سيكون على أيدي الأجيال القادمة، هذا وعد إلهي في القرآن الكريم.

وعقد قاسم العزم على مقاضاة جيش الاحتلال الإسرائيلي، واستجاب لطلب مؤسسات حقوقية تحريك دعوى قضائية في المحكمة الجنائية الدولية، لكنه يخشى من عدم خضوع الأول للمحاكمة نظرا لتاريخه الطويل في انتهاك القوانين.

والدته التي تحمل نظراتها آمالا عريضة بتجاوز ابنها هذه الإصابة تسخر كل جهدها ووقتها لمساعدته.

وهي أيضًا لم تتخل رغم كل الألم الذي ألم بالأسرة عن حق العودة إلى المجدل، قائلة لصحيفة "فلسطين": إن شاء الله نعود، هذه أمنية حياتنا.

ظلت الأم وابنها المصاب يتبادلان النظرات، كانت الأولى ترجو أن يحقق أحلامه كأنما لم يصب، بينما ظل هو وفيا لها بقوله: العلم سلاحي، وجزء أساسي من حياتي.

هذا هو ما سيتوكأ عليه قاسم في حياته ومستقبله، متغلبا على العكاز وبتر القدمين.