بما يمتلك من مشاعر وأحاسيس صادقة تجاه ما يؤمن به، استطاع الفنان التشكيلي رياض العسكر صناعة عوالم فنية مختلفة عن المألوف، حتى أنه لُقّب "بسفير النوايا الحسنة"؛ ليأخذك بسِحر ريشته إلى ما هو أعمق من الكلام وأشدّ تأثيراً على النفس من أي خِطابٍ آخر, فلسان الفنان ريشته, حول تجربته الفنية الثرية.. "فلسطين" أجرت عبر الهاتف حواراً شيقاً معه.
موهبة فنية "خطيرة"
وُلد ضيفنا في مدينة حلب السورية عام 1977م وعاش مع عائلته ظروفاً مادية صعبة ليكتشف في مرحلة طفولته أمرين مهمين: أحدهما دعم حبه للرسم, وآخر شكّلَ صدمةً له.
"كم أحببتُ الرسم وشغفتُ بالألوان وارتمائها على اللوحات البيضاء بانسجام جذاب" بهذا بدأ حديثه معنا تصديقاً للرأي القائل بأن الفنان لا يُصنع بل يُولد بالفطرة.
ويضيف بابتسامةٍ متواضعة بدت على صوته: "أذكر وأنا بالصف الرابع الابتدائي أُجريت مسابقة على مستوى المدرسة خاصة برسم المناظر الطبيعية, فرسمت الجبال والأنهار بشكل أكثر واقعية وبعيداً عما هو معتاد على طفل"؛ لا زلت أذكر ما قاله لي أستاذي في ذلك الحين:" أنت موهبة فنية خطيرة, تمتلك أسلوباً فنياً مميزاً ولك مستقبل مشرق" .
كلمات أستاذه أوجدت الأمل فيه وحركت لديه خيالا، ويا لها من كلمات: (ستصبح فناناً ولك مستقبل باهر), ظلّ بعدها لأربعة أعوامٍ يتناوب بين فنانين كِبار لينهل من خبرتهم ما يصقل موهبته ويُنمي الحسّ الفني لديه.
وعن دور والديه في تلك المرحلة قال، إن أمر موهبته مرّ عادياً على أسرته؛ مضيفاً: "في مجتمعنا العربي نادراً ما تجد من يهتم بالموهبة ويدعمها, خاصة في ظلّ النظرة السلبية التي كوّنها الإعلام العربي عن الفنان, لكن ذلك لا ينفي سعادتهم بي واعتزازهم بنجاحاتي".
ريشتي حالة فطرية
بينما كان في المرحلة الأولى من طفولته كانت أحبّ أوقاته إليه وهو يرسم, إلى أن اصطدم بواقعةٍ أجبرته على البعد عن الرسم لسنواتٍ طويلة، يُحدثنا عن ذلك: "وأنا في المرحلة الإعدادية نلت الجائزة الأولى على المحافظة في مسابقة الرسم التشكيلي وتجاوزت فيها فنانين مهمين، وعندما ذهبت للتكريم تفاجأت بـ 200 ليرة سورية من محافظ المدينة كجائزة عن لوحتي؛ شعرت أن الأمر يخلو من التقدير", مشيراً إلى أن الجائزة لم تستوف نصف ثمن علبة الألوان التي لون بها بياض اللوحة، ليهجر بعد هذا الموقف الرسم لسبعة عشر عاماً.
وحول تأثير هذه السنوات الطويلة من البعد عن ريشته الفنية.. قال العسكر بنبرة يملؤها الوفاء لما أحب:" الأحاسيس التي كنت أعيشها قبل هجري الرسم هي نفسها التي عشتها خلال الـــ17عاماً , فالحالة الفنية لم تغب عني في تلك الفترة ولم يخفت عندي شغف الألوان وتناسقها فكانت العين تلتقط الألوان بشكل غير عابر", ويُتابع :" لقد أصبح لديّ مخزون لوني كبير أثر على أعمالي فيما بعد ويظهر الآن على لوحاتي بشكلٍ جذاب ومختلف عما هو مألوف له ".
ولظروف كثيرة لم يتمكن "ضيفنا" من إتمام تعليمه, وهاجر عام 2000م مع أهله إلى المملكة العربية السعودية للبحث عن عمل، ويقول: "أُجبرت على التعامل بلامبالاة إزاء قراري بترك المدرسة, وأقنعتُ نفسي بأننا كمواطنين بسطاء علينا أن نبحث عن رزقنا من أجل العيش".
ظلّ الحنين إلى الريشة واللوحة البيضاء يُكابد فؤاده لسنواتٍ طويلة حتى عاد إليه بصبابة أشدّ، وروح أكثر شغفاً مما سبق، يروى لنا تفاصيل العودة بعد فواصل من تنهيدات الذكريات: "عام 2009م ذهبتُ إلى معرض للرسوم التشكيلية؛ وبينما كنت أشاهد اللوحات بدأت الروح الفنية داخلي تُخاطب الفن التشكيلي من جديد؛ وتيقنت أن مكاني في الحياة فنان وليس شيئاً آخر؛ ومن تلك اللحظة عدت إلى عالمي الفني".
ويُكمل :"بعدما عدت إلى الفن كان البصمة التي تميزني "البورتريه" أو الحروفيات, ومنذ البداية قررت أن تكون لي هوية تخصني ضمن أسلوبي ورؤيتي الخاصة؛ وما ساهم في ذلك أن ريشتي هي حالة فطرية وليست مكتسبة من أحد، وبحمد الله أنني أملك جرأة في اختيار الألوان داخل اللوحات".
وطالما نتحدث عن قصة نجاح لافتة، صاحبها ترك المدرسة وهو صغير ليبحث عن عمل، فإن من المفارقة أنه يدرّس في إحدى الجامعات السعودية، فإن من المواقف السلبية ما يصنع الناجحين تماماً كما الإيجابية. يقول العسكر :"النجاح والتميز يصنعان الأعداء حتى وإن لم يكن لك أعداء في الحياة , فقد كان هناك العديد من الفنانين الذين لم يرغبوا بوجودي في الساحة الفنية ولا بتميزي بينهم, حاولت الابتعاد عنهم قدر الإمكان، لكنني في المقابل أصررتُ على المواصلة وصقل موهبتي بشكلٍ أكبر".
لا يُعدّ تواجد رياض العسكر داخل المملكة العربية السعودية عادياً بل صنع له اسماً بين الشعب وعند أمراء المملكة، فكيف استطاع إنشاء مثل هذه العلاقات الوطيدة؟! يقول: "بعض الفنانين ينعزلون عن المجتمع ويتقوقعون حول أنفسهم, لكن أنا نظرت بشكلٍ مختلف عنهم، إذ ارتأيت أن الإنسان لا بد أن يكون جريئا في تقديم نفسه ولا يخاف أي شخصية كانت, فكنت واثقاً من نفسي مؤمنا بما أقدم, وبناءً عليه وصلت أعمالي الفنية من خلال الصحف إلى الملك سلمان وبعض الأمراء في المملكة نظراً لما وجدوا فيها من إحساس عالٍ وإضافة جديدة إلى عالم الفن التشكيلي".
وللخط العربي جمالية تميزه عن باقي الخطوط، فما مكانته في لوحات العسكر؟! يقول: "أسلوبي في الخط العربي مختلف كوني بدأت مشواري الفني مع مجموعة من خطاطين للخط العربي، فقد تأثرت بجمالية الخط العربي واستخدمت عدة تقنيات, بينما تركيزي ينصب على اللون والتكوين وتقطيع اللوحة، أما الحرف فهو عنصر مضاف إلى لوحاتي".
الوجع السوري
ومن الإنجازات التي حققها العسكر خلال حياته الفنية أنه تم منحه من الاتحاد البرلماني الدولي متعدد الأغراض ( TMIPU ) لقب سفير النوايا الحسنة نظراً لجعله الفن وسيلة من وسائل الإغاثة، حيث جمع ما يُقارب 100 ألف دولار للاجئين السوريين عن طريق بيع لوحاته, كما حصل على عضوية في البرلمان العربي الإبداعي, ناهيك عن تسجيله صاحب أعلى رقم في المملكة السعودية كمبيعات للوحات تشكيلية لعام 2015م , وأنه مسئول بالكامل عن رسومات لبرجٍ كامل في الرياض وهو البرج الوحيد في المنطقة العربية الذي تعود كل أعماله لفنان واحد , و70% من رسومات وزارة التعليم السعودية هي من أعمال العسكر , ويُعد واحدا من أربعة فنانين طوروا المدرسة الحروفية خلال الأعوام الماضية.
كثيرة هي الوقائع التي أيقظت في الوسط الفني أسلوباً إبداعياً وتناغماً فنياً يواكب الأحداث ، أبرزها ما انتشر من الأعمال الفنية التشكيلية التي تُحاكي ثورات الربيع العربي, فجمعت على اللوحات البيضاء التناقضات بين الجد والهزل, والألم والأمل، والمبكى والمضحك؛ وكان للعسكر دور بارز في تسخير ريشته للحديث عن الوجع السوري ونقله إلى العالم أجمع بإحساسٍ عالٍ .
ويتحدث العسكر عن الثورة السورية وموقفه منها قائلاً :"ما يُحرك الفنان هو مشاعره وصدق إحساسه تجاه الأحداث بحلوها ومرها, فكيف لو كانت هذه الأحداث مرتبطة بوطنك ؟! , فقد واكبت الثورة من خلال لوحاتي منذ الأسبوع الأول لها موثقاً أحداثها وما يجرى على الساحة السورية من تدمير وقصف واستشهاد الأبرياء", مشيراً إلى أن المتابع لأعماله الفنية يلمس النقلة النوعية واللونية فيها تأثراً بالأحداث الجارية في وطنه .
ويُضيف :" أستغرب ممن يُسمي نفسه فناناً ويحمل رسالة في الحياة ولا يُبالي بما يحدث لوطنه بل ويُساند الظالم فيها؛ فالفنان يتمتع بصدق المشاعر وقوة الانتماء لوطنه لأن الفن مشروع يحمل هدفا ساميا, إذ يستمد الفن قيمته من الموضوع المطروح ".
إذًا هل سيطر العمل الفني المقاوم على ريشتك ؟!..أقاطعه بسؤالي، ليقول: "كنت شاهداً بالريشة واللون والفكرة على ما يحدث في سوريا, ومع ذلك عشتُ حياتي وتفاصيلها البسيطة والجميلة من خلال لوحاتي, فالتوازن مطلوب ومهم".